الاحد 16 مارس 2025 | 11:34 مساءً
منذ شهر ديسمبر، أدت المخاوف من احتمال فرض الرئيس الأميركي دونالد ترامب رسوماً جمركية على واردات الذهب إلى قلب السوق رأساً على عقب، مما ساعد على ارتفاع سعر الذهب إلى مستوى قياسي تجاوز 3000 دولار للأونصة يوم الجمعة.
61 مليار دولار تدف من السبائك إلى الولايات المتحدةوتدفقت ما قيمته أكثر من 61 مليار دولار من السبائك إلى الولايات المتحدة، حيث سارع التجار لتجنب الرسوم المحتملة، مما أدى إلى تشويه بيانات التجارة في البلاد وتسبب في نقص بالمعدن بالعاصمة البريطانية لندن، التي تعد أكبر مركز لتجارة الذهب في العالم.
جعل هذا الطلب أفران مصفاة أرغور-هيريوس جنوب سويسرا تعمل على مدار الساعة، حيث لم تشهد مثل هذا الانشغال من قبل، وفقاً للرئيس التنفيذي المشارك لها روبن كولفينباخ، حيث تعمل ورشة الصهر طوال اليوم منذ الشهر الأخير من العام الماضي لتلبية الطلب الهائل على سبائك الذهب بوزن 1 كيلوغرام في نيويورك، بحسب صحيفة فايننشال تايمز البريطانية.
وقال كولفينباخ: "زاد الطلب بشكل ملحوظ. عادةً ما تستمر فترة ذروة الطلب لمدة أسبوع أو أسبوعين. لكن ذروة الطلب الحالية، والتي استمرت لأكثر من ثلاثة أشهر، أمر غير معتاد".
أبقت حمى الذهب الأميركية كولفينباخ مشغولاً للغاية، وذلك بفضل مفارقة في أسواق السبائك العالمية: حيث يستخدم السوقان الأميركي والبريطاني أحجاماً مختلفة من السبائك. في لندن، يتم معظم التداول على سبائك 400 أونصة، ويبلغ وزن كل منها حوالي 12.5 كيلوغرام، وهي بحجم مقارب لقالب الطوب.
على العكس من ذلك، تستخدم بورصة Comex في نيويورك سبائك بحجم الهواتف الذكية، وزنها كيلوغرام واحد، كمعيار لها. هذا يعني أن السبائك المتجهة عبر المحيط الأطلسي يجب أن تتوقف أولاً في سويسرا - موطن أكبر مصافي الذهب في العالم - لصهرها وإعادة صياغتها.
عتماد السوق على الأصول المادية للذهب
في عالم تتنقل فيه المعاملات المالية حول العالم في جزء من الثانية، يؤكد ازدهار التجارة الثلاثية بين نيويورك ولندن وسويسرا اعتماد سوق الذهب على كتل المعدن. في الأوقات العادية، تُتداول العقود بمليارات الدولارات من الذهب دون أن تُغادر السبائك الخزائن.
لكن التشوهات التي أحدثتها سياسات ترامب التجارية أثقلت كاهل النظام. ورغم أن ترامب لم يذكر قط فرض رسوم جمركية على الذهب، فإن احتمالية ضئيلة لإقدامه على فعل ذلك كانت كافية لرفع سعر عقود الذهب الآجلة في الولايات المتحدة أعلى من سعرها في لندن، مما أتاح فرصةً للمتداولين الراغبين في نقل المعدن عبر المحيط الأطلسي للمراهنة على الاستفادة من الفارق بين السعرين.
كانت آخر مرة شهدت فيها أسعار الذهب فجوةً كبيرة بين البورصتين خلال الفترة الأولى من جائحة كورونا. لكن مخزون الذهب في نيويورك تجاوز الآن حتى رقمه القياسي السابق في عصر كوفيد.
وقال كبير استراتيجيي السوق في مجلس الذهب العالمي، جون ريد: "الطبيعة المادية للذهب هي أمر يتم التقليل من شأنه، خاصة من مجموعة من العاملين في القطاع المالي الذين يتداولونه على شاشات بلومبرغ طوال اليوم". وأضاف: "الذهب يتمتع بخصائص مالية، لكنه أيضاً أصل مادي".
أزمة سيولة في سوق الذهب
تبدأ رحلة سبائك الذهب المتدفقة إلى نيويورك عادةً من أعماق الأرض، في أحد خزائن الذهب التسعة الواقعة أسفل بنك إنكلترا في قلب مدينة لندن.
عند إصدار أمر سحب سبائك ذهب، يدخل عامل إلى الخزائن ويستخرج الذهب المطلوب، وقد يتطلب ذلك غالباً التنقل بين السبائك الأخرى لتحديد السبائك المحددة في الطلب. ولأن لندن مبنية على الطين، فإن الأساسات اللينة لمبنى بنك إنكلترا تعني أنه لا يمكن رص الذهب فوق بعضه إلا بارتفاع طول الشخص حتى الكتف تقريباً.
تستغرق هذه العملية وقتاً طويلاً، وأدت إلى أكبر اختناق في سلسلة توريد سبائك وزنها كيلوغرام واحد. يجب أن يكون الموظفون الذين يستخرجون الذهب خاضعين لتدقيق دقيق، ومدربين تدريباً دقيقاً، وذوي خبرة كافية لرفع سبائك الذهب طوال اليوم - لذلك لا يمكن زيادة أعداد الموظفين بسرعة لتلبية زيادة الطلب على المدى القصير.
ظهرت أولى بوادر هذا الارتفاع في أوائل شهر ديسمبر/ كانون الأول، عندما التقت شخصيات من قطاع الذهب في حفل عشاء أقامته جمعية سوق السبائك في لندن بالمعرض الوطني، وناقشوا الطلب المتزايد القادم من الولايات المتحدة.
مع تسابق المتداولين لنقل الذهب من لندن إلى نيويورك، امتدت قائمة الانتظار لسحب الذهب من بنك إنكلترا إلى أكثر من أربعة أسابيع، مما تسبب في أزمة سيولة في سوق السبائك بلندن.
ارتفعت معدلات تأجير الذهب قصيرة الأجل (الفائدة التي يتم فرضها على استعارة الذهب لفترة قصيرة والتي تحدث غالباً بين البنوك المركزية أو المؤسسات المالية) إلى مستويات قياسية الشهر الماضي، حيث واجه المتداولون صعوبة في الحصول على المعدن الفعلي، مما زاد من تكاليف رأس المال العامل للشركات مثل المصافي وصانعي المجوهرات.
وأقر نائب محافظ بنك إنكلترا، ديف رامسدن، في مؤتمر صحافي عُقد في شهر فبراير بالطلب على الذهب، قائلاً: "كان هناك طلب قوي على مواعيد تسليم الذهب"، مشيراً إلى أنه تأخر بسبب شاحنة في ساحة السبائك أثناء دخوله المبنى في وقت سابق من نفس يوم المؤتمر. وأضاف: "الذهب أصل مادي، لذا هناك قيود لوجستية وأمنية حقيقية".
مكانة لندن في سوق الذهب
يحتفظ بنك إنكلترا بالسبائك نيابةً عن عشرات البنوك المركزية، بالإضافة إلى البنوك التجارية. ولا تملك وزارة الخزانة البريطانية سوى 6% من الذهب الموجود في خزائنه الضخمة.
جزئياً تعكس المكانة المرموقة التي تتمتع بها لندن في أسواق الذهب المادي - على الرغم من أوجه القصور التي وصفها رامسدن، ودور نيويورك كمركز رئيسي لتداول العقود الآجلة - انخفاض الرسوم التي يفرضها بنك إنكلترا مقارنةً بعمليات الخزائن التجارية المنافسة. كما تبرز تلك المكامو الأهمية الكبيرة للثقة في سوق الذهب: فالمستثمرون ومحافظو البنوك المركزية سعداء بإيداع ذهبهم في Threadneedle Street نظراً لسجله الممتد لقرون.
وقال كبير محللي المعادن النفيسة في بنك HSBC، جيم ستيل: "تتمتع لندن بميزة تاريخية، بلا شك، تعود إلى نظام الذهب، الذي عمل بكفاءة عالية، من نهاية الحرب النابليونية (بدايات القرن الـ 19) وحتى الحرب العالمية الأولى". وأضاف: "هناك إرث طويل من عمليات الذهب التي خرجت من المملكة المتحدة وبنك إنكلترا".
إعادة تشكيل السبائك في سويسرا
بمجرد مغادرة السبائك مخازن بنك إنكلترا، والتي تُحمّل عادةً في شاحنة مصفحة، يتم نقلها إلى مطار هيثرو البريطاني، ثم تُنقل جواً إلى مدينة زيورخ السويسرية في بطن طائرة ركاب. لأسباب تأمينية، لا تحمل طائرات الركاب سوى خمسة أطنان من الذهب في المرة الواحدة.
من زيورخ، يُنقل الذهب إلى مصفاة، حيث يُصهر ويُعاد صياغته، قبل أن يعود ليُشحن جواً إلى الولايات المتحدة. تبلغ تكلفة هذه الرحلة بأكملها بين لندن ونيويورك - شاملةً النقل وإعادة الصياغة - ما بين ثلاثة وخمسة دولارات للأونصة، وفقاً لمجلس الذهب العالمي.
داخل مصفاة أرغور-هيريوس، الواقعة في مدينة مندريسيو السويسرية بالقرب من الحدود الإيطالية، تُصهر سبائك الذهب الكبيرة وتُعاد صياغتها إلى شريط طويل داخل آلة "صب مستمر". لأن سبائك الذهب التي تزن 400 أونصة هي بالفعل "ذهب نقي" - في إشارة إلى شرط نقاء 99.99% لسبائك الاستثمار - فهي لا تحتاج إلى مزيد من التنقية، بل إعادة تشكيلها فقط.
وللقيام بذلك، يُقطع شريط الذهب من آلة الصب إلى قطع تزن حوالي كيلوغرام واحد. بعد تعديل الوزن، يُصهر مرة أخرى، ويُسكب في قالب سبائك وزنه كيلوغرام واحد - ثم يُبرد ويُختم ويُصقل.
0 تعليق