ليست هذه قراءة نقدية في ما خطته يدا الكاتب والإعلامي عبد العزيز كوكاس، وهي كثيرة ومتنوعة الفنون، ولا تدّعي لنفسها استكناه ما تحمله هذه الكتابة من لُمع وإضاءات وتحليل ورؤى ومسارب بعيدة الغور… إنما هي قراءة مصاحبة، قراءة صاحبتُ فيها الكاتب ومنتوجه وكذا أخلاق الكتابة في السلوك اليومي للمثقف المرتبط بقضايا زمنه دون أن يفرط قيد أنملة في الجانب الإبداعي في كتاباته، صحافة كانت أم أدبا.. لذلك فهذه القراءة أقرب إلى رسم بروفايل بأضلاع زمردية تحاول القبض على هذا الكائن المتعدد الذي فيه شيء من لوثة اللامنتمي كما صرح يوما.
هناك كُتّابٌ يكتبون ليخبروا، وهناك من يكتبون ليخلدوا، وهناك من يكتبون ليكشفوا، وهناك قلة يكتبون لينسجوا من اللغة كونًا موازياً للحياة.. عبد العزيز كوكاس واحدٌ من هؤلاء، كاتبٌ لا تُختزل تجربته في وصفٍ أحادي، إذ يتحرك بين الصحافة والإبداع والنقد، مزوّدًا ببصيرة الشاعر وحسّ الناقد وحدس الإعلامي.
لا يكتب كوكاس ليضيف سطورا إلى زحمة النصوص، بل ليستبطن السؤال الكامن في الظلّ، ليعيد ترتيب المشهد بعيدًا عن صخب الاستهلاك السريع للأفكار. في مقالاته وتحليلاته وحواراته النقدية، يذهب أبعد من القشرة الخارجية للواقع والنصوص، يتجاوز الخبر نحو ما تخفيه اللغة من تواطؤاتٍ وتردداتٍ وتأويلات واشتباكات.
يكتب كمن يضيء عتمة الأفكار بدل أن يعيد إنتاج الأضواء المألوفة، يحفر عميقا لا ليبلغ طبقةً صلبة، بل ليبحث عن الماء الذي يسيل خلف التصدعات والشقوق. الصحافة عند كوكاس ليست تسجيلًا للوقائع، بل مختبرٌ لفهم نبض الزمن والتقاط ظلاله الخفية. إنه كاتب ينحت المعاني لا ليستعرضها، بل ليصغي إلى ارتداداتها العميقة في الوجدان والواقع.. في كل ما يكتبه هناك رهبة أمام الكلمة، احتفاء بجوهر الفكرة، وافتتانٌ بالغموض الشفاف للحياة.
لكن الصحافي والناقد فيه لا يطغيان على المبدع، بل يغذّيان فيه رؤيةً أكثر رحابةً للعالم.. في أدبه هناك حساسية شاعرٍ يصغي إلى النبض الداخلي للأشياء، يستدرج التفاصيل الهامشية ليجعلها محورا للرؤية، يلتقط اللحظات التي تمرّ عادةً بلا اكتراث، لكنه يراها ككائناتٍ نابضة بالمعنى والتاريخ غير المكتوب.
لا يرضى عبد العزيز كوكاس بالمباشر والجاهز، بل يبحث عن المجاز العميق، عن ذلك الشعور الذي يظلّ معلقًا في الذهن كصدى بعد أن تنتهي الكلمات.. لديه لغة تتسع للحلم والفقد، للدهشة والانكسار، لحكمة العابرين الذين يدركون أن الحقيقة ليست مطلقة، بل محضُ انعكاسات في مرايا متعددة.
فهو ليس كاتبا عابرا، بل صوتٌ يسكنه القلق النبيل تجاه الكتابة والعالم.. رجلٌ يدرك أن الكلمة مسؤولية، وأن الفكرة لا تكتمل إلا بقدر ما تظلّ مشرعةً على التأويل.. في الصحافة، كما في الأدب والنقد، لا يقدّم أجوبة جاهزة، بل يترك نافذةً مشرعةً للدهشة، للشكّ الخلّاق، وللأسئلة التي تظلّ تقودنا أبعد مما نظنّ.. في نصوصه، كما في حضوره، هناك تواضعُ العارف، وقلقُ الشاعر، وفضولُ الصحفي، وعمقُ من يدرك أن أجمل الأشياء هي تلك التي لا تُمسك بالكامل.
شهادات كبار الكتاب والمفكرين والنقاد المغاربة والعرب حول إنتاجات هذا المتعدد، تبوح بأن كوكاس ليس مجرد صحافي، بل هو مبدع يسير على شفرة الفكرة في أوقات الخطر، ينسج حروفه على حد الحافة ويغزل الواقع بالحلم. إن لم يكن في كتاباته مراوغا يهرب من الخطابات الرسمية ويسعى وراء المغامرة الفكرية، فهو باحث دائم عن جذور الحقيقة، متسائلٌ عن كل شيء، عابثٌ بالمسلمات، كما لو أن كل قلم يكتب به هو آلة لحفر عميق لأنفاق الغموض والبحث عن الحقيقة، على الأقل “لكي لا نفهم ولا نموت بلداء وننام على وسادة القناعات الكسولة” كما صرح في أحد حواراته.
أبصارنا تلتقط صورته في ضوء الكتابة الهادئة، التي تحتفل بجوهر المعنى أكثر مما تحتفل بالمواقف العابرة.. نلمس بين سطور كلمات عبد العزيز كوكاس عبقًا مميزًا، يخترق قلب الحدث، ويجدّد فينا القدرة على التأمل، فكل جملة في مقال له كأنها طيف يتسلل بين ردهات العقل والروح، ويستحثهما للذهاب أبعد، لتجاوز الظاهر إلى أعماق الجوهر. وفي كل كلمة يكتبها، يسحبنا كوكاس إلى عالم من التأملات، حيث يتلاقى الفكر مع الشعر، وحيث التحليل الدقيق يلتقي بالصور الجمالية. وكأن قلمه لا يعبر عن أفكار فحسب، بل يسعى ليغمس من حبر الوجود ذاته، فيشده من تلابيب الزمان إلى فسحات الدهشة والتساؤل. لا يخشى نقدًا ولا يُحابي سلطة، يعبر عن قناعاته بقوة، ولا يُقيم وزناً للزمن المتسارع في توجيه الأفكار، بل يداعبها بعناية الشاعر في قصيدته، ليدعو إلى الحرية والتغيير، بوعي نقدي متزن لا بعقلية من يرى في الخراب بناء معماريا يليق بالأحياء.
كل كلمة لدى كوكاس لها نبضٌ خاص، وجرس يحفز المتلقي على التفكر في أبعادها، ولكل جملة غمزة في زاوية ما كانت تُرى إلا في عينيه. إنه الكاتب الذي يكتب بالروح كما يكتب بالقلب، حيث الكتابة جزءٌ من وعيه، جزءٌ من حياته، جزءٌ من ذلك البحث اللامتناهي عن المعنى في بحر الوجود. يجسد في نصوصه رؤية ذكية ومبصرة، يدعو الجميع إلى الإيمان بأن الكتابة ليست مهنة، بل هي بحث مستمر عن الجمال في الحقيقة، والسحر في الكلمة.
كلما زرتُ عائلته انبهرت باستغراقه وسط كومة كتبه الوفيرة، كلما التقيته صدفة وهو رفقة أكثر من كتاب حتى في وقت استراحة بمقهى في شاطئ مانيسمان أو سابليت بالمحمدية.. وكما تستهويه السباحة كطقس يومي كيفما كانت أحوال الجو أو البحر، يستهويه الغوص في الأحداث وفي اللغة بحثا عن لآلئ الفكر وجواهر المجازات. هو كائن أدبي يغرق في التأملات الوجودية التي تتجاوز حدود الكلمات إلى جوهر الإنسان وحقيقة الكون، ليترك أثرًا في كل من يقرأ له أو يسمعه. فكل كلمة يكتبها، وكل حرف ينطقه، هو رحلة نحو الكشف عن المعنى الضائع بين خبايا الحياة.
عبد العزيز كوكاس كاتب يعبر هشاشة العالم بحكمة الشاعر وعمق الناقد، ينظر إلى الكتابة بوصفها استبطانا لا سردًا، إنه ذلك الحضور الأنيق في قلب الصحافة وفي فضاء الأدب، حيث يتداخل صوت قلمه العميق مع نبضات الفكرة، ليترك أثره في العقل والروح.
0 تعليق