سباحة الإنسانية في مياه التراث

هسبيرس 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف
سباحة الإنسانية في مياه التراث
أحمد بلحاج آية وارهامالإثنين 24 مارس 2025 - 16:59

إن مقولة قتل الأب فيها من المكر والالتباس أكثر ما فيها من إرادة المحو والتخطي، وإني لأعجب ممن يقتل الأب هنا، ويستورد أبا مقتولا من هناك دون وعي. فالأب يستحيل قتله في الفكر والأدب، حتى ولو اعتقدنا أننا قتلناه فهو يطل علينا ضاحكا من خلايانا الجذعية، إنه كآدم المختفي ظاهرا، والمتجسدة خصائصه في سلالته، يتمتع بـ(العود الأبدي) الذي تحدث عنه نيتشه، قد يتوارى في فترة من فترات النكوص، لكنه لا يلبث أن يعود في لباس عقل منفتح على الزمن، مقارن شياته بتحولاته، وملامح نبض بمحلوماته.

فكل الإنسانية تسبح في مياه التراث، بعضها في ظاهر هذه المياه، وبعضها الآخر في باطنها، وذلك لأنه النبض السري الرابط لها بالجذور وبالهوية. ففي كل التراثات الكونية يوجد صنفان من القيم: صنف القيم المبدعة والمنتجة، وهي التي ينبغي أن تُتخذ مطية للتنمية، وصنف القيم الجامدة التي لا تُنتج إلا الجمود والعقم، وهي التي يجب التخلي عنها، وإيداعها صندوق الماضي، لا في قطار المستقبل؛ إذ ليس كل تراث صالحا للاشتغال في الراهن والآتي، زيادة على أنه لا يُقلَّد، وإنما يُصَفَّى، لأن التقليد عيبٌ في الذات، سواء أتعلق بتراثها أم بتراث غيرها، وعجزٌ إبيستِمولوجي، وسباحةٌ في زمن مبتوت الصلة بالزمن الداخلي الحي لتلك الذات.

إن التراث ليس مقدسا، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، بل هو ككل الأشياء فيه ما هو نافع، وما هو ضار لا يمكن قبوله اليوم، لأنه يعوق ولوج الحداثة، ولذا يتحتم تجاوزه بجرأة، والقطعُ معه لكي نتمكن من الحداثة، وهذا يحتاج إلى قراءة حداثية للمصادر الأصلية للتراث، يتولد عنها إبداع خاص، وجمال متجدد، يكون مدارهما تكريمُ الإنسان، ورفعُ القدسية عن كل الاجتهادات التي لم تعد صالحة لسلوكه، ولا مثرية لوجوده؛ إذ المقصود هو تغييرُ المقاصد والغايات المكَرِّسة للتقليد والقدسية، وربطُ العقل بأفق القيم الكونية، لإحداث جملة تحولات عميقة في المجتمع، تنقله من نمط حضاري إلى نمط آخر أعلى منه وأرقى. وهذه التحولات لن تكون فاعلة إلا إذا نبعت من داخل الوعي الذاتي لذلك المجتمع، أما إذا وردت أو فُرضت عليه من الخارج فإنها لن تكون إلا تقليدا ممسوخا.

فالحداثة في جوهرها تفريقٌ بين واقع الأشياء وروحها، والروح هي مجموعة القيم والمبادئ التي يكون الواقع تجسيدا وتطبيقا لها، فهي قيم وليست واقعا خارجيا مقلَّدا؛ تُحرِّر الذات من وصاية أيٍّ كان، وتُخوِّلها حق النقد والاعتراض على نفسها وعلى غيرها، وعلى الأشياء من حولها، وبذلك تعي الفرق التداولي بين التطبيقات اللامتناهية لروح الحداثة، وتندغم في زمانها لا في زمان غيرها.

إن الحداثة فعلٌ تاريخي، لا يُحدد في فترة معينة، لأنه يمتلك جذورا في الماضي، وامتدادات في المستقبل. وكلما أتى هذا الفعل بما يُدهش الناس، ويدفعهم إلى تلقيه بعقولهم ووجداناتهم بسبب ما يحمله من قيم جديدة غير مسبوقة، ترتقي بواقعهم نحو الأجمل، أسرعوا إلى تبنيه، ودخلوا في حركيته بتلقائية، شريطة أن يكون ذلك الفعل متنفسا برئتي الأخلاق، لا بمعناها النظري اليوناني، وإنما بالمفهوم الصوفي، الذي يرى الخُلُقَ (بضم الخاء) مقابلا للخَلْق (بفتح الخاء). فالخلق والخلق هيئتان، الأولى للجسد، والثانية للروح. وهذا يدل على أن فعل الحداثة لا يمكن أن يُنتج مفاعيله في الإنسان إذا هو اتجه إلى هيئة الجسد، وترك هيئة الروح، لكون الإنسان مكونا منهما، بهما يكون، وبهما تتم حياته. وكل حداثة رأت غير هذا سيكون مصيرها الفشل، بدليل ما نراه اليوم من قوة الإنسان التي بدأت تنقض عليه هو ذاته وعلى ما حوله، كما يتجلى في أسلحة الإبادة والدمار، وفي التلاعب بالجينات، ما ولَّد فراغا أخلاقيا، وجعل الناس يعيشون في فراغ مًوَحِّد تحت سقف التوترات، ولذلك تزايدت الدعوات إلى ضرورة تخليق توجهات الحداثة.

والمبدع الحصيف لا يعزب عن لُبِّه أن الحداثة استمرار لأجمل ما في التراث، خاصة منه الشق الأدبي والصوفي الذي لا يمكن للشعرية المعاصرة أن تمتد في الزمن دون استرفاده، فهو الجذر السري لإيراق شجرته، ولا يقول بغير هذا إلا متَهَوِّسٌ بالدُّرَج (=الموضات)، والدرج فقاعات صابون مصيرها الزوال. أما الإبداع فهو منذور للديمومة، وشتان بين زائل وخالد.

النشرة الإخبارية

اشترك الآن في النشرة البريدية لجريدة هسبريس، لتصلك آخر الأخبار يوميا

اشترك

يرجى التحقق من البريد الإلكتروني

لإتمام عملية الاشتراك .. اتبع الخطوات المذكورة في البريد الإلكتروني لتأكيد الاشتراك.

لا يمكن إضافة هذا البريد الإلكتروني إلى هذه القائمة. الرجاء إدخال عنوان بريد إلكتروني مختلف.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق