في الجنوب الشرقي للمغرب لا يزال عيد الفطر، على غرار عيد الأضحى، يشكل محطة روحية واجتماعية مقدسة تحيي فيه النفوس قيم التضامن وصلة الرحم.
غير أن هذه الطقوس العريقة باتت تواجه تحديات متزايدة، بفعل عدة إكراهات، من بينها غلاء الأسعار، الذي أنهك جيوب الأسر، وكذا زحف التكنولوجيا الحديثة، التي غيرت أنماط التواصل والعلاقات حتى باتت “اللمة العائلية” مهددة بالتآكل.
ويصر سكان الجنوب الشرقي، في ورزازات وزاكورة وتنغير، والرشيدية وطاطا وفجيج ومناطق أخرى، على التمسك بجذورهم الاجتماعية والروحية، متحدين واقعا صعبا فرضته التحولات الاقتصادية والاجتماعية، في محاولة للحفاظ على ما تبقى من “نكهة” العيد القديمة حيث الدفء العائلي والبساطة والفرح الجماعي.
في الأسواق الشعبية يعاني التجار والمواطنون على حد سواء من موجة غلاء طالت كل شيء، من أسعار الملابس والحلويات والخضر واللحوم إلى مستلزمات الضيافة، حيث يقول الحاج إدريس بنعيسى، تاجر تقليدي بمدينة ورزازات، إن “الناس باغيين يفرحو، ولكن الجيب خاوي… رغم ذلك كاين اللي كيتسلف باش يدير الفرحة لأولادو نهار العيد”.
من جهته، قالت نعيمة بعدي، متخصصة في بيع الحلويات بمدينة تنغير، إنه موازاة مع عيد الفطر يلاحظ تراجع واضح في الإقبال على المنتجات المحلية التقليدية مثل “الفقاص” و”كعب الغزال” المصنوع منزليا لصالح حلويات جاهزة تغزو المحلات التجارية.
وأضافت المتحدثة، في تصريحها لهسبريس، أن عوامل عدة تساهم في اندثار عدد من العادات والتقاليد القديمة الخاصة بالعيد، مضيفة أن ذلك يظهر تحولا في أنماط الاستهلاك، لكنه لا يمنع العديد من الأسر من التمسك بطقوس العيد الأصيلة.
من جهة أخرى، يرى عدد من الشباب في مقتبل العمر أن وسائل التواصل الحديثة فرضت نفسها كبديل عن اللقاءات العائلية، حيث أصبحت رسائل “عيد مبارك” عبر “واتساب” و”فيسبوك” تحل محل الزيارات الفعلية، مما أفقد المناسبة جزءا من حميميتها، رغم أن هناك من يرفض هذا التحول.
وفي هذا السياق يقول عبد الله أمزان، شاب من زاكورة، “أنا كنفضل نمشي نزور العائلة ونشرب أتاي معاهم، ماشي غير نبعث إيموجي ديال التهنئة”، ملتمسا من الشباب التشبث بتقاليد وعادات الأجداد، خاصة في الأعياد، وزيارة العائلة والأقارب والأصدقاء وصلة الرحم، مشيرا إلى أن 11 شهرا في السنة كلها مفتوحة لهم من أجل الدردشة واستعمال وسائل التواصل.
ورغم هذه التحولات، فإن روح التحدي لا تزال حاضرة بقوة، ففي عدد من قرى الجنوب الشرقي تنظم بعض الأسر موائد جماعية تضم الجيران والأقارب، كنوع من إعادة إحياء طقس “اللمة”، متحدية بذلك ضغوط الغلاء وتغير نمط الحياة. وفي هذا الإطار تقول فاطمة، أرملة تقيم بالرشيدية، “ما عندناش بزاف، ولكن كنتقاسمو الفرحة، واللمة هي اللي كتزيد تزين العيد”.
الأطفال أيضا، وهم أكثر الفئات تأثرا بـ”رقمنة العيد”، لا يزال بعضهم ينتظر بفارغ الصبر “مناسبة العيد” لزيارة الأهل. ورغم أن الكثير منهم باتوا يقضون أوقاتهم مع الهواتف الذكية والألعاب الإلكترونية، فإن عائلات عديدة تسعى جاهدة لتقنين استخدام الهواتف خلال يوم العيد حتى لا تضيع لحظات التواصل الحقيقي.
وترى الفاعلة الجمعوية حنان آيت أوعلي أن “التحولات الاجتماعية أمر طبيعي، لكن التحدي الحقيقي هو التوفيق بين الحداثة والحفاظ على الروح الأصيلة للعيد”، مضيفة “لدينا هوية غنية يجب ألا تضيع وسط الشاشات والغلاء، والوعي المجتمعي هو مفتاح الحفاظ على تماسكنا”.
في هذا السياق تطلق بعض الجمعيات المحلية سنويا مبادرات رمزية خلال العيد كتنظيم زيارات جماعية لكبار السن أو تقديم هدايا بسيطة للأطفال، في محاولة لتعويض ما فقده العيد من دفء بفعل الظروف الاقتصادية والاجتماعية.
محمد الغزيوي، أحد سكان مدينة تنغير، تساءل: هل يمكن للعيد أن يستعيد بريقه القديم في ظل هذه التحولات؟ مشيرا إلى أن الإجابة “تكمن في الوعي الجماعي بأهمية صون التقاليد، ليس كحنين للماضي فقط، بل كوسيلة لمواجهة التفكك الاجتماعي والاغتراب داخل الأسرة”.
ورغم كل الإكراهات، يظل عيد الفطر في الجنوب الشرقي مناسبة تحمل في طياتها قوة المقاومة الثقافية والاجتماعية، وإصرارا جماعيا على أن تظل اللمة العائلية قائمة، ولو بخبز الشعير وشاي النعناع لأن القيمة ليست في المظاهر، بل في تواصل القلوب.
0 تعليق