أفتح حاسوبي في الثالثة صباحا، لأخط سطور ركن عن كيفية الاشتغال على الأعمال التلفزيونية البوليسية. ما دام الأمر يتعلق بأكثر الأركان تخصصا في المجال، من الضروري أن نسرد أمثلة أجنبية، قبل أن نصل إلى ما يهمنا نحن، أي ما يجب القيام به للرقي بهذا الصنف.
تنتابني بين الفينة والأخرى تلك الرغبة لتوضيح وتصحيح عديد من تفاصيل تستحق التقويم، وتذكير المشتغلين على الدراما عندنا بأن ما نحتاجه حاليا ليس هو ما نشاهده بالضرورة، ولا يواكب بالخصوص المجهودات التي يقوم بها البلد في عديد من مجالات. هناك مشكل؟ نعم، هناك مشكل.. هل هناك حل؟ نعم، هناك بالأحرى حلول عديدة..
في مهرجان برلين السينمائي العالمي، تم تخصيص ورشتين للمسلسلات البوليسية في نسخة العام الماضي. محاضرون أمنيون مختصون، ومخرجون، وكثير من ممثلي قنوات تلفزيونية منتجة، شاركوا وقدموا الطرق الجديدة المعتمدة في الاشتغال على هذا الصنف. الطرق البالية انتهى عهدها أيها السادة، والكليشيهات أُقبرت، وتمرير الأفكار المهمة يتم بشكل سلس يمزج المتعة بالجدية. طرق عديدة تتبع، وبأساليب مختلفة تقدم رجل الأمن إنسانا له هفواته ومحاسنه، في علاقته بأهله ورفاقه ومحيطه، وتحتفظ بهيبته وجديته في عمله اليومي.
حين يكتبون سطور أعمالهم، يتفادون الأخطاء البدائية في هذا الصنف؛ وبالتالي لن تعثر على شرطي يلاحق المجرم في البوادي، ولن تجده مرتديا معطفا يطالع الجريدة بشكل عبيط وهو يترصد تحركات مشتبه به، ولن تشاهد مفتشا معتوها اسمه فوضيل، في مسلسل جزائري صفق له جمهورهم في رمضان، وتكاد تتيقن من خلاله بأنهم يضحكون على أنفسهم عن وعي؛ لأنهم فعلا يصورون حقيقتهم. نبتعد عن تصرفات الحمقى، وقانا الله وإياكم منهم، ونقترب من العقلاء لنسرد أمثلة قد تنفع..
في أعمال مثل Sugar و The Gentelmen أو حتى في Flashback الذي بدأ عرضه في فرنسا، يمررون بسلاسة فكرة مهمة تخص التصور الجديد لكيفية اشتغال رجل الأمن؛ ذلك الإنسان النبيه المالك لحسن التصرف، والملم بكل المستجدات، الذي يفرق بين حياته الشخصية وطبيعة عمله.
سيسرع ذكي يتابع هذا الركن خطواته، ليطرح عليّ ذلك السؤال الذي أنتظره منذ البدء: ما هو السبيل لكي نقدم منتوجا يلج البيوت، ويتناول هذا الصنف بطريقة صحيحة بعيدة عن السطحية التي تحضر في أغلب ما يعرض؟
جميل جدا.. عزيزي الذكي، اقترب قليلا، وحاول أن تستوعب ما سأقترحه عليك، وفيه خلاصات من تجربة مهنية ممتدة لنحو عشرين عاما تابعت فيها في كبريات المهرجانات العالمية طرق الاشتغال العلمية. بالنسبة لي، لم تكن قلة الموارد الإنتاجية سببا، في يوم من الأيام؛ لأن المسلسلات البوليسية المقنعة غير مكلفة نهائيا. هي أقل كلفة من مسلسلات بمواضيع تتكرر وتتلقفها عيون الناس، وتحضر فيها الشعوذة والسرقة وتمرير كلمات عنصرية بهدف الإضحاك وتشويه صورة المرأة وتبخيس مجهودات المؤسسات وغيرها من مآسٍ تعرض ويطبع معها المشاهد.
من يكتب يجب أن يكون مختصا، والرسائل يمكن أن تقدم بشكل ذكي في أعمال تدخل البيوت. هناك مسلسلات بوليسية بطابع كوميدي، كتبت بطريقة فيها جمع بين الترفيه والجدية؛ وهو ما يحفز المشاهد ليتابع ويستفيد.
المطلوب ليس هو المبالغة أو البهرجة أو تلميع صورة؛ بل المطلوب فقط هو أن تحضر المهنية في التصوير، والابتعاد عن التنميط الذي يبخس المجهودات الكثيرة. هناك المختص الذي يكتب السيناريوهات، وهناك من يصحح دون أن يمس استقلالية ما كُتب.
من يصحح يفترض فيه أن يكون عارفا وملما، وهدفه تنبيه الكاتب إلى التناقضات أو الأخطاء التي قد تسيء إلى المهنة. عندنا في المغرب، الأمن الوطني يشهد له أهل الاختصاص في العالم بالاجتهاد، وبالريادة في عديد من تخصصات. سيكون المشاهد المغربي سعيدا بمتابعة فصول هذا الاجتهاد الكبير في مسلسل محترم أو في جزء منه، تتوفر له مقومات جمالية تطرقت لها في البداية.
لكي يتحقق هذا الأمر، يلزمنا كاتب مختص يتقن الكتابة، ومخرج عارف بالصنف، وممثلون نوجّههم لكي لا نسقط في التفاهة. في هذا الباب، يمكن أن نشرح تفاصيل مهنية كثيرة لكيفية الاشتغال منذ فترة الكتابة ثم التصوير والعرض، مثلما يمكن أن نشرح كيفية الاشتغال على وثائقيات حقيقية تخصص لقضايانا الكبرى؛ تلك الوثائقيات التي سيبحث عنها المشاهد في كل بقاع العالم، وأقصد هنا الوثائقيات المتقنة التي تقنع العقل ومعه العين.
في أول وآخر المطاف، هذه هي الأعمال التي سنتركها للأجيال المقبلة. لأني لم ولن أكون من هواة اختصار المسافات، أتمنى فقط أن نتعلم كيفية التعامل مع الصورة.. أصلا، الصورة هي التي صارت تحكم، وستحكم، وفي بلدنا الذي نحبه، نستحق أن ننتج صورة ذكية، تلائم الجهود التي يبذلها المغرب العظيم، والسلام.
0 تعليق