في مشهد يليق بمسرحياته السياسية المعتادة، وقف دونالد ترامب، الرئيس الأمريكي السابع والأربعين، في منتجعه الفاخر في مار-آ-لاجو، ليتباهى بأن تعريفاته الجمركية قد أرغمت زعماء العالم على التوسل إليه.
في خطاب ألقاه أمام حشد من أنصاره، ادعى ترامب أن قادة دول مثل الصين وكندا والاتحاد الأوروبي يتصلون به "يوميًا"، يتوسلون لعقد صفقات تجارية. بل ذهب إلى أبعد من ذلك، معلنًا بسخرية لاذعة أنهم "يصطفون في طابور للتوسل لي"، وهي عبارة أشعلت ضحكات الحاضرين وأثارت موجة من الجدل على منصات التواصل الاجتماعي.
وفقًا لتقرير نشرته صحيفة "ميرور" البريطانية، أكد ترامب أن تهديداته بفرض تعريفات تصل إلى 25% على الواردات من دول متعددة قد أثارت ذعر القادة العالميين، الذين يخشون تأثيرها على اقتصاداتهم. "إنهم يعرفون أنني لا أمزح، ولهذا يهرولون إليّ!"، هكذا وصف ترامب المشهد بغروره المعهود وفقًا لموقع ياهو نيوز.
لم يكتفِ ترامب بالإشارة إلى مكالمات من قادة مثل الرئيس الصيني شي جين بينغ أو رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو، بل أضاف لمسة درامية، مدعيًا أن هؤلاء الزعماء يبدون "يائسين" لإرضائه. "إنهم يقولون: دونالد، من فضلك، هيا نتحدث. لكنني أرد: انتظروا في الطابور!"، حسبما نقلت "ميرور" عن خطابه في مار-آ-لاجو.
هذه التصريحات، التي تمزج بين الغطرسة والفكاهة، ليست مجرد كلام عفوي، بل جزء من استراتيجية ترامب التفاوضية: الضغط بلا هوادة، والخطاب الاستفزازي، وجرعة كبيرة من المبالغة لإجبار الأطراف الأخرى على الخضوع. لكن، كما هو الحال دائمًا مع ترامب، يبقى الحد الفاصل بين الحقيقة والخيال ضبابيًا.
العودة إلى التعريفات: ترامب يلوح بعصاه السحرية
منذ أيام حملته الانتخابية الأولى في 2016، جعل ترامب من التعريفات الجمركية ركيزة مركزية في فلسفته الاقتصادية. سواء كان ذلك عبر فرض رسوم على الألمنيوم من المكسيك أو إطلاق حرب تجارية مع الصين، يرى ترامب التعريفات كسلاح اقتصادي ونفسي على حد سواء. في ولايته الثانية، التي بدأت في يناير 2025، عاد إلى هذا النهج بحماس مضاعف، مهددًا بفرض تعريفات جديدة على الواردات من دول مثل اليابان، كوريا الجنوبية، وحتى الحلفاء الأوروبيين. "التعريفات هي أعظم اختراع في التاريخ، ربما بعد برجر الجبن المزدوج"، هكذا علق في منشور على منصة إكس، مضيفًا: "الجميع يدفع، وأمريكا تربح!"
ما يميز هذه الجولة من المفاوضات ليس فقط حجم التعريفات المقترحة، بل الطريقة التي يصور بها ترامب ردود فعل العالم. عبارته عن "تقبيل المؤخرة" ليست مجرد زلة لسان، بل جزء من مسرحية سياسية متعمدة. كما يرى المحلل السياسي ديفيد بروكس في مقاله الأخير في "نيويورك تايمز"، فإن ترامب يستخدم مثل هذه التصريحات لتحقيق هدفين: إثارة قاعدته الشعبية التي تعشق جرأته، وإرسال رسالة إلى القادة الأجانب بأنه لن يكون سهل المراس. لكن هل حقًا "يصطف زعماء العالم" كما يدعي؟ الحقيقة، كالعادة، أكثر تعقيدًا.
طابور التوسل: حقيقة أم خيال؟
على عكس الرواية التي يروجها ترامب من مار-آ-لاجو، فإن ردود الفعل الدولية على تهديداته بالتعريفات ليست كلها خضوعًا. الصين، على سبيل المثال، أعلنت عن خطط لفرض تعريفات مضادة على المنتجات الزراعية الأمريكية، في تكرار لحربها التجارية السابقة مع واشنطن. الاتحاد الأوروبي يهدد برد مماثل يستهدف الويسكي والسيارات الأمريكية، بينما ألمحت كندا إلى إمكانية قطع إمدادات الطاقة إذا تصاعدت الأمور. هذه الردود لا تبدو كطابور من الزعماء اليائسين، بل كتحضير لمواجهة قد تطول.
ومع ذلك، لا يمكن إنكار أن تهديدات ترامب تحمل بعض الثقل. في حالة المكسيك، دفع تهديده بفرض تعريفات على النفط في 2024 إلى تشديد إجراءات الأمن على الحدود، وهو ما وصفه بأنه "انتصار عظيم". كذلك، أجبرت تهديداته ضد كوريا الجنوبية على إعادة النظر في اتفاقية التجارة الحرة بين البلدين، مما عزز إيمان ترامب بأن تعرفاته "تفعل المستحيل".
لماذا التعريفات؟ شغف ترامب الأبدي
في قلب نهج ترامب يكمن إيمانه العميق بأن التعريفات هي أكثر من مجرد سياسة اقتصادية؛ إنها عرض للقوة. في مقابلة مع شبكة "فوكس نيوز" العام الماضي، قال: "التعريفات تجعلني أشعر وكأنني ألعب لعبة مونوبولي، لكن بالبلدان بأكملها. وأنا دائمًا أفوز!" هذا الشعور بالسيطرة هو ما يدفعه للعودة إلى التعريفات مرة تلو الأخرى، حتى عندما تظهر الدراسات أن تعريفاته السابقة أثقلت كاهل المستهلكين الأمريكيين ورفعت الأسعار.
لكن بالنسبة لأنصار ترامب، هذه الأرقام مجرد تفاصيل تافهة. في مار-آ-لاجو، هتف الحشد بحماس لكل جملة، وخاصة عندما وصف زعماء العالم بأنهم "يطلبون الرحمة". كما قال أحد الحاضرين، وهو سائق شاحنة من تكساس: "ترامب يضع أمريكا أولًا، وإذا كان ذلك يعني أن يضطر الباقون للركوع، فهذا جيد!" هذه الروح تعكس جاذبية ترامب: رجل يحول السياسة إلى عرض ترفيهي لا يُنسى.
العالم يرد: بين السخرية والتحدي
لم تمر تصريحات ترامب دون ردود فعل. في باريس، وصف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون تهديدات التعريفات بأنها "غير بناءة"، مضيفًا أن أوروبا "لن تستسلم للضغوط". في بكين، سخرت وسائل الإعلام الحكومية من ترامب، واصفة إياه بـ"الرجل الذي يحلم بعالم يدور حوله". حتى في لندن، كتب أحد المعلقين في "الغارديان" أن "ترامب يحول الدبلوماسية إلى كوميديا منخفضة المستوى". لكن في الولايات المتحدة، يبدو أن هذه الانتقادات تغذي شعبية ترامب بين قاعدته، التي ترى في خطابه دليلًا على هيمنته.
بينما يواصل ترامب نهجه المتشدد في السياسة التجارية، يبقى السؤال: هل ستحقق تعريفاته ما يصبو إليه؟ التاريخ يقدم إجابات مختلطة. في ولايته الأولى، نجحت التعريفات في إجبار بعض الدول على إعادة التفاوض على اتفاقيات تجارية، لكنها كلفت المستهلكين الأمريكيين مليارات الدولارات وأضرت بقطاعات مثل الزراعة. اليوم، مع تصاعد التوترات الاقتصادية العالمية، قد تكون المخاطر أعلى.
ومع ذلك، يبدو ترامب غير مكترث. في ختام خطابه في مار-آ-لاجو، رفع قبضته وقال: "العالم يعرف أنني لا ألعب. إذا أرادوا التعامل مع أمريكا، فعليهم أن يتعاملوا معي!" ثم أضاف، وهو يغمز للحشد: "وربما، فقط ربما، سيحصلون على شرف الانضمام إلى أعظم طابور في التاريخ!" سواء كنت تؤيده أو تعارضه، فإن ترامب يثبت مرة أخرى أنه يعرف كيف يجذب الأنظار. لكن ما إذا كانت تعريفاته ستؤدي إلى انتصارات اقتصادية أم إلى فوضى عالمية، فهذا ما ستكشفه الأشهر القادمة.
0 تعليق