لأول مرة منذ سقوط الأسد.. فنانو سوريا يحيون معلمًا مهجورًا في دمشق

الرئيس نيوز 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

في قلب دمشق، المدينة التي شهدت عقودًا من التحولات السياسية والاجتماعية، يبرز مبنى مهجور كشاهد صامت على تاريخ مضطرب. لكن في أبريل 2025، وبعد أشهر من سقوط نظام بشار الأسد، تحول هذا المبنى إلى رمزا للأمل والإبداع، حيث اتحد فنانو سوريا لإحيائه بأعمال فنية تعبر عن جروح الحرب وتطلعات المستقبل. هذا المشروع، الذي أبرزته صحيفة "ذا ناشيونال"، ليس مجرد محاولة لإعادة إحياء معلم معماري، بل هو تعبير عن إرادة شعب يسعى لاستعادة هويته الثقافية وإعادة بناء وطنه من خلال الفن.

خلفية الحدث: دمشق بعد الأسد
منذ ديسمبر 2024، عندما أعلنت فصائل المعارضة السورية سيطرتها على العاصمة دمشق، شهدت سوريا تحولات جذرية. كان سقوط نظام الأسد لحظة تاريخية أشعلت مشاعر الفرح والأمل لدى الكثيرين، لكنها جاءت أيضًا مع تحديات هائلة، من إعادة بناء البنية التحتية إلى استعادة النسيج الاجتماعي الذي مزقته سنوات الحرب. في هذا السياق، برز الفن كأداة للشفاء الجماعي، حيث وجد الفنانون السوريون في التعبير الإبداعي وسيلة لمعالجة الجروح العاطفية والنفسية التي خلفتها الحرب.

دمشق، التي كانت يومًا مركزًا ثقافيًا نابضًا بالحياة، عانت من ويلات الحرب التي أدت إلى تدمير العديد من معالمها الثقافية. المباني المهجورة، التي كانت في السابق مراكز للنشاط الاجتماعي والثقافي، تحولت إلى رموز للخراب. لكن مع بداية مرحلة جديدة في تاريخ سوريا، أصبحت هذه المباني لوحات فنية تنتظر من يعيد إليها الحياة.

المبنى المهجور: رمز الدمار والأمل
المبنى الذي اختاره الفنانون السوريون لمشروعهم لم يكن مجرد هيكل خرساني مهجور، بل كان في يوم من الأيام مركزًا ثقافيًا يعج بالحياة. خلال الحرب، أصبح هذا المكان ملجأً مؤقتًا للنازحين، ثم سرعان ما تحول إلى أطلال مهجورة تحمل في جدرانها ذكريات الألم والخسارة. اختيار هذا المبنى بالذات لم يكن عشوائيًا، بل جاء كرمز لقدرة الفن على تحويل الدمار إلى إبداع، واليأس إلى أمل.

وفقًا لتقرير "ذا ناشيونال"، فإن مجموعة من الفنانين الشباب، الذين عاش الكثير منهم تجارب النزوح والخسارة، قرروا تحويل هذا المبنى إلى مساحة فنية تعبر عن تجاربهم الشخصية وآمالهم الجماعية. المشروع، الذي بدأ كمبادرة عفوية، سرعان ما جذب انتباه فنانين آخرين، بما في ذلك بعض الأسماء المعروفة في الوسط الفني السوري، مما أعطاه زخمًا إضافيًا.

الفن كأداة للشفاء
ما يميز هذا المشروع هو تركيزه على الفن كوسيلة للتعبير عن الجروح العاطفية التي خلفتها الحرب. الفنانون الذين شاركوا في المبادرة استخدموا مجموعة متنوعة من الوسائط الفنية، من الجداريات الملونة إلى المنحوتات المصنوعة من بقايا الحرب، مثل الركام والمعادن الصدئة. كل عمل فني يروي قصة، سواء كانت قصة خسارة شخصية أو رؤية لمستقبل أفضل.

على سبيل المثال، قامت إحدى الفنانات برسم جدارية ضخمة تصور شجرة تنمو من بين الأنقاض، كرمز للحياة التي تتجدد رغم الدمار. فنان آخر استخدم قطعًا من الزجاج المكسور لخلق لوحة تعكس الضوء بطريقة ترمز إلى الأمل وسط الظلام. هذه الأعمال، التي تجمع بين الجمال والألم، ليست مجرد زينة بصرية، بل هي دعوة للتأمل في الماضي والتفكير في المستقبل.

إحدى الجوانب اللافتة في المشروع هي مشاركة الفنانين من خلفيات متنوعة، بما في ذلك أولئك الذين عادوا إلى سوريا بعد سنوات من المنفى. هؤلاء الفنانون، الذين عاشوا تجربة الاغتراب، جلبوا معهم وجهات نظر فريدة أثرت المشروع. كما شارك في المبادرة أطفال وشباب من المجتمع المحلي، مما أعطى المشروع بعدًا تعليميًا واجتماعيًا، حيث أصبح المبنى مساحة لتعليم الفن وتشجيع الإبداع بين الأجيال الجديدة.

تأثير المشروع على المجتمع
لم يقتصر تأثير المشروع على المبنى نفسه، بل امتد إلى المجتمع المحلي في دمشق. لقد أصبح المبنى وجهة للسكان المحليين والزوار على حد سواء، الذين يأتون لمشاهدة الأعمال الفنية والمشاركة في الفعاليات الثقافية التي بدأت تنظم في الموقع. ورش العمل الفنية، والعروض المسرحية، وحتى الجلسات الحوارية حول مستقبل سوريا، جعلت من المبنى مركزًا ثقافيًا جديدًا في المدينة.

هذا التفاعل المجتمعي يعكس رغبة السوريين في استعادة دورهم كفاعلين في بناء مستقبلهم. بعد سنوات من العزلة والخوف، أصبحت مثل هذه المبادرات بمثابة جسور تربط بين أفراد المجتمع، وتساعدهم على مواجهة تحديات المرحلة الانتقالية. كما أن نجاح المشروع شجع فنانين آخرين في مدن سورية أخرى، مثل حلب وحمص، على إطلاق مبادرات مماثلة، مما يشير إلى بداية نهضة ثقافية في البلاد.

دور الفنانين السوريين في إعادة البناء
الفنانون السوريون لم يكونوا مجرد مشاركين في هذا المشروع، بل كانوا قادة له. بعد سنوات من التهميش، المنفى، أو حتى السجن بالنسبة لبعضهم، وجدوا في هذه المبادرة فرصة لاستعادة صوتهم. العديد من هؤلاء الفنانين كانوا قد عبروا عن معارضتهم لنظام الأسد خلال الحرب، مما عرضهم للاضطهاد. اليوم، مع بداية مرحلة جديدة، يستخدمون فنهم ليس فقط للتعبير عن أنفسهم، بل للمساهمة في بناء سوريا جديدة.

من بين الفنانين المشاركين، برزت أسماء مثل تلك التي دعمت الثورة السورية منذ بدايتها، مثل الممثل مكسيم خليل والمطربة أصالة نصري، الذين عبرا عن دعمهما لمثل هذه المبادرات عبر وسائل التواصل الاجتماعي. كما شارك فنانون شباب لم يكونوا معروفين قبل الحرب، لكنهم اكتسبوا شهرة من خلال أعمالهم التي تعبر عن واقع الحرب والأمل في المستقبل.

التحديات والتطلعات
على الرغم من النجاح الأولي للمشروع، إلا أنه يواجه تحديات كبيرة. نقص التمويل، ضعف البنية التحتية، والوضع السياسي غير المستقر في سوريا، كلها عوامل قد تعيق استمرارية المبادرة. كما أن إعادة بناء الهوية الثقافية السورية تتطلب جهودًا طويلة الأمد تشمل دعم التعليم الفني، إعادة تأهيل المؤسسات الثقافية، وخلق بيئة آمنة للإبداع.

661.jpg

ومع ذلك، فإن المشروع يحمل في طياته بذور التغيير. من خلال تحويل مبنى مهجور إلى مركز ثقافي، أظهر الفنانون السوريون أن الفن يمكن أن يكون أداة قوية للشفاء وإعادة البناء. هذه المبادرة ليست سوى البداية، لكنها دليل على أن الشعب السوري، بإبداعه وإصراره، قادر على استعادة مكانته كمنارة ثقافية في المنطقة.

يعد مشروع إحياء المبنى المهجور في دمشق أكثر من مجرد مبادرة فنية؛ إنه شهادة على صمود الشعب السوري وقدرته على تحويل الألم إلى إبداع. في ظل التحديات الهائلة التي تواجه سوريا بعد سقوط الأسد، يقدم هذا المشروع نموذجًا لكيفية استخدام الفن كوسيلة للشفاء الجماعي وإعادة بناء المجتمع. من خلال أعمال الفنانين السوريين، تتحول جدران المبنى المهجور إلى لوحات تحكي قصة شعب يرفض الاستسلام، ويصر على بناء مستقبل يعكس أحلامه وتطلعاته.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق