أصبحت اليونان وجهة جذابة للمستثمرين الأجانب الراغبين في الحصول على إقامة عبر برنامج "التأشيرة الذهبية"، الذي يمنح تصريح إقامة مقابل استثمارات عقارية أو مالية. ومن بين هؤلاء المستثمرين، برز الأتراك كمجموعة بارزة، مما أثار قلقًا متزايدًا في أثينا بشأن تأثير هذا الإقبال على سوق الإسكان، الأمن القومي، والعلاقات السياسية بين اليونان وتركيا.
وفقًا لتقرير نشرته "دويتشه فيله" في يوليو 2024، فإن ارتفاع عدد المواطنين الأتراك الذين يشترون العقارات للحصول على التأشيرة الذهبية أثار مخاوف بين السياسيين والسكان المحليين، خاصة في ظل التوترات التاريخية بين البلدين. في هذا المقال، سنستعرض تفاصيل هذه الظاهرة، أسبابها، وتداعياتها، وردود الفعل اليونانية تجاهها، مع الإشارة إلى المعلومات المستمدة من التقرير المذكور.
برنامج التأشيرة الذهبية: محرك الاستثمار الأجنبي
أطلقت اليونان برنامج التأشيرة الذهبية في عام 2013 لتحفيز اقتصادها المتعثر بعد الأزمة المالية العالمية. يتيح البرنامج للأفراد من خارج الاتحاد الأوروبي الحصول على إقامة لمدة خمس سنوات، قابلة للتجديد، مقابل استثمار بحد أدنى 250،000 يورو في العقارات. ومع ذلك، تم رفع هذا الحد إلى 500،000 يورو في مناطق مثل أثينا وميكونوس وسانتوريني في عام 2023، ثم إلى 800،000 يورو في بعض المناطق بحلول عام 2024، وذلك للحد من الضغط على سوق الإسكان المحلي. يتميز البرنامج بجاذبيته مقارنة ببرامج مماثلة في دول أوروبية أخرى، حيث يوفر تكلفة أقل ومزايا مثل حرية السفر في منطقة شنغن وإمكانية تأجير العقارات المشتراة.
وفقًا لتقرير "دويتشه فيله"، أصدرت اليونان حوالي 20،000 تأشيرة ذهبية منذ إطلاق البرنامج، مع استثمارات إجمالية تجاوزت 5 مليارات يورو، معظمها في قطاع العقارات. هذه الأرقام تعكس نجاح البرنامج في جذب رؤوس الأموال الأجنبية، لكنها أثارت أيضًا نقاشات حول آثاره الجانبية.
إقبال الأتراك على العقارات اليونانية
في السنوات الأخيرة، شهدت اليونان ارتفاعًا ملحوظًا في عدد المواطنين الأتراك الذين يستثمرون في العقارات، خاصة في أثينا، تيسالونيكي، والجزر القريبة من السواحل التركية مثل رودس وكوس.
وفقًا لتقرير "دويتشه فيله"، أصبح الأتراك ثاني أكبر مجموعة مستثمرين في برنامج التأشيرة الذهبية بحلول عام 2024، بعد الصينيين، حيث شكلوا حوالي 20% من إجمالي طلبات التأشيرة في السنوات الأخيرة. يعزى هذا الإقبال إلى عدة أسباب:
القرب الجغرافي: تجعل الحدود المشتركة بين اليونان وتركيا الاستثمار في اليونان خيارًا عمليًا للأتراك. الجزر اليونانية مثل ساموس وخيوس، التي تبعد أميالًا قليلة عن الساحل التركي، أصبحت وجهات مفضلة.
الأوضاع الاقتصادية في تركيا: انخفاض قيمة الليرة التركية وارتفاع التضخم دفعا العديد من الأتراك، خاصة من الطبقة المتوسطة العليا، إلى البحث عن استثمارات آمنة في الخارج. العقارات اليونانية توفر لهم وسيلة لحماية مدخراتهم مع الحصول على إقامة أوروبية.
التوترات السياسية: يرى بعض الأتراك في التأشيرة الذهبية خطة احتياطية في ظل عدم الاستقرار السياسي في بلادهم. الإقامة اليونانية تمنحهم خيار الانتقال إلى أوروبا بسهولة إذا لزم الأمر.
تسهيلات السفر: في عام 2024، أطلقت اليونان برنامج تأشيرات دخول سريعة للأتراك لزيارة عشر جزر في بحر إيجة، مما سهل على المستثمرين الأتراك استكشاف الفرص العقارية. وفقًا لـ"دويتشه فيله"، ساهم هذا البرنامج في زيادة الطلب على العقارات في هذه المناطق.
المخاوف اليونانية: بين الاقتصاد والسياسة
رغم الفوائد الاقتصادية للاستثمارات التركية، أثارت هذه الظاهرة قلقًا في أثينا، كما أشار تقرير "دويتشه فيله". هذه المخاوف تشمل:
ارتفاع أسعار العقارات: يشتكي السكان المحليون من أن الطلب الأجنبي، بما في ذلك من الأتراك، تسبب في ارتفاع أسعار العقارات والإيجارات، خاصة في أثينا وتيسالونيكي. في بعض الأحياء، تضاعفت أسعار المنازل، مما جعل شراء العقارات شبه مستحيل لليونانيين ذوي الدخل المتوسط. هذا دفع أحزاب المعارضة، مثل "سيريزا"، إلى المطالبة بإلغاء البرنامج أو تقييده.
المخاوف الأمنية: التوترات التاريخية بين اليونان وتركيا، بما في ذلك النزاعات حول الحدود البحرية وقبرص، تجعل بعض اليونانيين ينظرون بحذر إلى الاستثمارات التركية. وفقًا لـ"دويتشه فيله"، أعرب سياسيون من اليمين عن قلقهم من شراء الأتراك لعقارات في جزر قريبة من تركيا، مثل ليسبوس وكوس، معتبرين أن ذلك قد يشكل مخاطر أمنية طويلة الأمد. بل إن بعض وسائل الإعلام المحلية وصفت هذه الظاهرة بـ"الاستعمار الاقتصادي".
التأثير الاجتماعي: هناك مخاوف من أن الإقبال التركي قد يؤثر على الهوية الثقافية لبعض المناطق، خاصة في الجزر ذات الأهمية التاريخية. هذه المخاوف غالبًا ما تكون مبالغًا فيها، لكنها تثير نقاشات عاطفية بين السكان.
التداعيات السياسية: يخشى البعض أن يؤدي وجود عدد كبير من المقيمين الأتراك إلى تعقيد العلاقات مع أنقرة، خاصة إذا حاولت تركيا استغلال هذا الوجود في مفاوضات دبلوماسية. كما أن هناك حساسية بشأن التعامل مع طلبات إقامة من أتراك معارضين للحكومة التركية.
ردود الفعل اليونانية: محاولات للتوازن
ردًا على هذه المخاوف، اتخذت الحكومة اليونانية خطوات لتنظيم برنامج التأشيرة الذهبية. وفقًا لـ"دويتشه فيله"، تم رفع الحد الأدنى للاستثمار في المناطق ذات الطلب العالي، كما فُرضت قيود على أنواع العقارات المؤهلة للبرنامج، مثل اشتراط تحويل العقارات التجارية إلى سكنية في بعض الحالات. كما دعا سياسيون، خاصة من حزب "الديمقراطية الجديدة" الحاكم، إلى مراجعة البرنامج لضمان عدم تأثيره السلبي على السكان المحليين.
على الجانب الآخر، يرى المؤيدون للبرنامج أن الاستثمارات التركية تمثل فرصة اقتصادية. وفقًا للتقرير، ساهمت هذه الاستثمارات في تنشيط سوق العقارات، خلق فرص عمل، وزيادة الإيرادات الضريبية. كما يؤكد البعض أن الأعداد الفعلية للمستثمرين الأتراك لا تزال محدودة مقارنة بالصينيين، وأن المخاوف الأمنية مبالغ فيها.
على المستوى الشعبي، تتباين الآراء. في حين يرحب البعض بالأتراك كسياح ومستثمرين، يعبر آخرون عن قلقهم عبر وسائل الإعلام أو المنتديات العامة، خاصة في المناطق المتضررة من ارتفاع الأسعار. تقرير "دويتشه فيله" أشار إلى أن هذا النقاش أصبح جزءًا من الحوار السياسي الأوسع حول الهوية الوطنية والعلاقات مع تركيا.
التداعيات المستقبلية
مع استمرار إقبال الأتراك على العقارات اليونانية، يبدو أن النقاش حول التأشيرة الذهبية سيظل محتدمًا. من جهة، تسعى اليونان إلى الاستفادة من الاستثمارات الأجنبية لدعم اقتصادها، لكنها تواجه ضغوطًا داخلية لمعالجة أزمة الإسكان والمخاوف الأمنية. الحل قد يكمن في فرض قيود إضافية على البرنامج، مثل تحديد عدد التأشيرات السنوية أو توجيه الاستثمارات نحو مناطق أقل ازدحامًا.
سياسيًا، يظل العامل التركي حساسًا. أي تصعيد في التوترات بين أثينا وأنقرة قد يعزز المطالبات بتقييد الاستثمارات التركية، بينما يمكن أن تسهم هذه الاستثمارات في تحسين العلاقات الاقتصادية إذا أُديرت بحكمة. كما أشار تقرير "دويتشه فيله"، فإن اليونان بحاجة إلى توازن دقيق بين الانفتاح الاقتصادي وحماية مصالحها الوطنية.
وأشارت صحيفة جريك ريبورتر اليونانية إلى أن إقبال الأتراك على شراء العقارات والحصول على التأشيرة الذهبية في اليونان يعكس تحديات وفرص العلاقة بين البلدين. بينما تجلب هذه الاستثمارات فوائد اقتصادية، فإنها تثير مخاوف بشأن الإسكان، الأمن، والهوية الثقافية. يتطلب الأمر سياسات مدروسة لضمان استمرار البرنامج دون المساس بالاستقرار المحلي، في ظل تاريخ معقد بين اليونان وتركيا. النقاش الحالي، كما أبرزه تقرير "دويتشه فيله"، يؤكد الحاجة إلى حوار شامل يوازن بين المصالح الاقتصادية والاعتبارات السياسية والاجتماعية.
0 تعليق