تُعد العلاقات بين سوريا وإسرائيل من أكثر العلاقات تعقيدًا وتوترًا في منطقة الشرق الأوسط، حيث تمتد جذور الخلافات بينهما إلى عقود طويلة من الصراعات السياسية والعسكرية، بما في ذلك حروب 1967 و1973، والنزاع المستمر حول هضبة الجولان المحتلة.
في الآونة الأخيرة، أثارت تقارير وتسريبات دبلوماسية نقاشًا حول إمكانية أن تعترف سوريا بإسرائيل بحلول نهاية عام 2026، وهو ما يمثل تحولًا محتملًا في السياسة الخارجية السورية قد يكون له تداعيات عميقة على المنطقة.
يستند توقع اعتراف دمشق بالكيان إلى معلومات من مصادر دبلوماسية وتقارير إعلامية، بما في ذلك تسريب منسوب إلى دبلوماسي بريطاني، لتحليل هذا السيناريو من زوايا متعددة، مع تقييم الاحتمالات والتحديات التي قد تواجه مثل هذه الخطوة.
السياق الدبلوماسي: التسريب البريطاني
في أبريل الجاري، نقلت مصادر دبلوماسية بريطانية، بحسب ما أورده كريج موراي، أن أحمد الشرع (المعروف أيضًا باسم أبو محمد الجولاني)، الذي يُشار إليه كـ"رئيس" مؤقت لسوريا في السياق السياسي الجديد، قد أكد للمملكة المتحدة أن سوريا تنوي "تطبيع العلاقات" مع إسرائيل بحلول نهاية عام 2026.
ويشمل ذلك الاعتراف الرسمي بدولة إسرائيل وتبادل السفراء، وهو ما يُعتبر خطوة غير مسبوقة في تاريخ العلاقات السورية-الإسرائيلية.
وفقًا للمصدر الدبلوماسي، تأتي هذه الخطوة كجزء من صفقة أوسع تتضمن دعمًا ماليًا غربيًا كبيرًا ورفع العقوبات المفروضة على سوريا. ومع ذلك، أثار التسريب تساؤلات حول تفاصيل الصفقة، خاصة أن المصدر أشار إلى أن انسحاب القوات الإسرائيلية من الأراضي السورية المحتلة، مثل هضبة الجولان، لم يُطرح كشرط من قبل الجانب السوري أو الإسرائيلي. هذا الغياب الملحوظ لمثل هذا الشرط يثير شكوكًا حول مدى جدية الالتزام السوري أو دوافعه الحقيقية.
التحولات السياسية في سوريا
للإجابة على سؤال ما إذا كانت سوريا ستعترف بإسرائيل، أشارت مدونة "كريج موراي"، والعديد من حسابات الدبلوماسيين والمراقبين عبر منصة إكس، يجب أولًا فهم السياق السياسي الداخلي في سوريا. بعد سنوات من الحرب الأهلية، شهدت سوريا تحولات جذرية في بنية الحكم، حيث برزت قوى جديدة تسيطر على مقاليد السلطة. أحمد الشرع، الذي كان قائدًا لهيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقًا)، يُعتبر شخصية محورية في هذا السياق.
هيئة تحرير الشام، التي كانت تُصنف كمنظمة إرهابية من قبل العديد من الدول، خضعت لعملية "إعادة تسويق" سياسية، حيث حاولت تقديم نفسها كقوة معتدلة تسعى للحكم الشامل.
هذا التحول في صورة الشرع وجماعته يُنظر إليه كجزء من استراتيجية لكسب الدعم الغربي والإقليمي، خاصة من دول مثل تركيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
في هذا السياق، قد يُفسر الإعلان المحتمل عن الاعتراف بإسرائيل كمحاولة لتعزيز هذا الدعم، حيث يُنظر إلى التطبيع مع إسرائيل كبوابة للحصول على شرعية دولية ومساعدات اقتصادية.
الدوافع المحتملة وراء التطبيع
1. الدعم المالي والاقتصادي
سوريا، بعد عقود من الحرب والعقوبات، تعاني من اقتصاد منهار وبنية تحتية مدمرة. الوعود بالدعم المالي الغربي، بما في ذلك تخصيص مليارات اليورو كمنح وقروض، قد تكون دافعًا قويًا للقيادة السورية الجديدة لاتخاذ خطوات مثل الاعتراف بإسرائيل. على سبيل المثال، أشارت تقارير إلى أن الاتحاد الأوروبي تعهد بتقديم دعم مالي كبير لسوريا، ولكن مع شروط تتعلق بتشكيل حكومة "شاملة" واتباع سياسات تتماشى مع المصالح الغربية.
2. رفع العقوبات
العقوبات الدولية، بما في ذلك قانون قيصر الأمريكي، كانت لها آثار كارثية على الاقتصاد السوري. رفع هذه العقوبات قد يكون حافزًا رئيسيًا للقيادة السورية لتقديم تنازلات سياسية، بما في ذلك التطبيع مع إسرائيل، التي تُعتبر حليفًا استراتيجيًا للولايات المتحدة.
3. الدعم الغربي والشرعية السياسية
من خلال الاعتراف بإسرائيل، قد تسعى القيادة السورية إلى تعزيز شرعيتها في أعين المجتمع الدولي، خاصة الدول الغربية التي دعمت إسرائيل تاريخيًا. هذه الخطوة قد تُسهم في تحويل صورة سوريا من دولة منبوذة إلى شريك في الاستقرار الإقليمي.
4. التأثير الإقليمي
بعض الدول الإقليمية، مثل تركيا والسعودية، قد تدعم هذا التوجه كجزء من استراتيجياتها لمواجهة النفوذ الإيراني في المنطقة. الاعتراف بإسرائيل قد يُنظر إليه كوسيلة لتعزيز التحالفات مع هذه الدول، التي بدأت هي نفسها في تطبيع علاقاتها مع إسرائيل في إطار اتفاقيات إبراهيم.
التحديات التي تواجه التطبيع
على الرغم من هذه الدوافع، فإن الاعتراف بإسرائيل يواجه عقبات كبيرة قد تجعل تحقيقه بحلول نهاية 2026 أمرًا صعبًا، إن لم يكن مستحيلًا.
1. المعارضة الداخلية
الاعتراف بإسرائيل يُعتبر خطوة مثيرة للجدل في سوريا، حيث يُنظر إلى إسرائيل تاريخيًا كعدو رئيسي بسبب احتلالها لهضبة الجولان ودعمها لجماعات معارضة خلال الحرب الأهلية. العديد من الفصائل المسلحة، بما في ذلك بعض المقاتلين الذين يدعمون الشرع حاليًا، قد يعارضون هذه الخطوة. على سبيل المثال، أشار المصدر الدبلوماسي إلى أن مقاتلين من أصول شيشانية وأوزبكية وأويغورية قد لا يتقبلون فكرة الاعتراف بإسرائيل، مما قد يؤدي إلى تمرد داخلي.
2. الوضع في هضبة الجولان
غياب أي نقاش حول انسحاب إسرائيل من هضبة الجولان في الصفقة المزعومة يُعد نقطة ضعف كبيرة. الجولان ليس مجرد قضية إقليمية، بل رمز وطني للسوريين. أي محاولة للاعتراف بإسرائيل دون معالجة هذه القضية قد تُثير غضبًا شعبيًا واسعًا، مما يهدد استقرار النظام الجديد.
3. التأثير على العلاقات مع حلفاء سوريا التقليديين
سوريا كانت تاريخيًا جزءًا من "محور المقاومة" إلى جانب إيران وحزب الله. الاعتراف بإسرائيل قد يؤدي إلى قطع العلاقات مع هذه الأطراف، مما يعزل سوريا عن حلفائها التقليديين دون ضمان دعم دائم من الغرب. هذا التحول قد يضعف موقف سوريا الإقليمي، خاصة إذا لم تتحقق الوعود الغربية.
4. الوضع الإقليمي المتقلب
الشرق الأوسط يشهد حالة من عدم الاستقرار، مع تصاعد التوترات بين إسرائيل وحزب الله، والحرب المستمرة في غزة، والنفوذ التركي والروسي في سوريا. أي خطوة نحو التطبيع قد تُستخدم من قبل أطراف إقليمية لزعزعة الاستقرار في سوريا، سواء عبر دعم فصائل معارضة أو تصعيد الصراعات الداخلية.
السيناريوهات المحتملة
السيناريو الأول: تحقيق التطبيع
في حال تمكنت القيادة السورية من تأمين دعم داخلي وإقليمي كافٍ، وإذا تحققت الوعود الغربية بالدعم المالي ورفع العقوبات، فقد تنجح سوريا في الاعتراف بإسرائيل بحلول نهاية 2026. هذا السيناريو يتطلب استقرارًا سياسيًا داخليًا وتسوية مع الفصائل المسلحة المعارضة للتطبيع. ومع ذلك، فإن نجاح هذا السيناريو يعتمد بشكل كبير على قدرة إسرائيل على تقديم تنازلات، مثل التفاوض حول الجولان، وهو أمر غير مرجح في الوقت الحالي.
السيناريو الثاني: تأجيل أو إلغاء التطبيع
السيناريو الأكثر ترجيحًا هو أن تواجه خطوة التطبيع معارضة داخلية وإقليمية قوية، مما يدفع القيادة السورية إلى تأجيل أو إلغاء هذه الخطوة. قد تستخدم القيادة السورية فكرة التطبيع كورقة تفاوض للحصول على دعم غربي دون الالتزام الكامل بها، خاصة إذا شعرت أن التكلفة السياسية تفوق الفوائد.
السيناريو الثالث: تصعيد الصراع
في حال حاولت القيادة السورية فرض التطبيع بالقوة، فقد يؤدي ذلك إلى تصعيد الصراع الداخلي، مع تمرد فصائل مسلحة أو احتجاجات شعبية. إسرائيل قد تستغل هذا الوضع لتعزيز وجودها العسكري في سوريا، مما يزيد من التوترات الإقليمية.
التداعيات الإقليمية والدولية
إذا مضت سوريا بخطوات جدية في الاعتراف بإسرائيل، فقد يؤدي ذلك إلى إعادة تشكيل التحالفات في الشرق الأوسط. دول مثل السعودية وقطر قد ترحب بهذه الخطوة كجزء من استراتيجيتها لمواجهة إيران، بينما قد تعارضها دول أخرى مثل لبنان (بسبب حزب الله) والعراق. على الصعيد الدولي، قد يُنظر إلى التطبيع كنجاح للسياسة الغربية في دمج إسرائيل في النظام الإقليمي، ولكنه قد يثير انتقادات من روسيا والصين، اللتين تدعمان سوريا تقليديًا.
من ناحية أخرى، فإن فشل التطبيع قد يعزز من عدم الاستقرار في سوريا، مما يجعلها ساحة لتصفية الحسابات بين القوى الإقليمية والدولية. إسرائيل قد تواصل استهداف البنية العسكرية السورية، مستغلة ضعف الحكومة الجديدة، بينما قد تحاول إيران وحزب الله استعادة نفوذهما عبر دعم فصائل معارضة.
أما السؤال حول ما إذا كانت سوريا ستعترف بإسرائيل بحلول نهاية 2026، فيظل ذا إجابة مفتوحة على احتمالات متعددة. التسريب الدبلوماسي البريطاني يشير إلى وجود نية لدى القيادة السورية الجديدة لاتخاذ هذه الخطوة، مدفوعة بالحاجة إلى الدعم المالي والشرعية الدولية. ومع ذلك، فإن التحديات الداخلية والإقليمية، بما في ذلك المعارضة المحتملة من الفصائل المسلحة وقضية هضبة الجولان، تجعل تحقيق هذا الهدف أمرًا معقدًا.
ويعتمد تحقيق أو فشل التطبيع على قدرة القيادة السورية على تحقيق توازن بين المصالح الداخلية والخارجية، وهو توازن يبدو هشًا في ظل الظروف الحالية. السنوات القادمة ستكشف ما إذا كان هذا الإعلان مجرد مناورة سياسية أم بداية حقبة جديدة في العلاقات السورية-الإسرائيلية.
0 تعليق