الذكاء الاصطناعي يعيد تشكيل فتاوى الشريعة الإسلامية بين الانفتاح والتحفظ

هسبيرس 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

أصبح الذكاء الاصطناعي حاضرا بقوة في مختلف مجالات الحياة، من الصناعة والتعليم إلى الطب والإعلام؛ بل تعدى ذلك إلى ميادين الفن والإبداع، حيث أضحى شريكا مؤثرا في تجميع وتحليل وتفسير المعطيات على كثرتها وتعقيدها، واتخاذ القرارات بمختلف مستوياتها، واقتراح الحلول بتنوع الطرق لأجرأتها.

ومع هذا التوسع التكنولوجي اللافت والمتسارع، بدأت تبرز تساؤلات جوهرية بشأن مدى إمكانية الاستعانة بالذكاء الاصطناعي في مجالات الشريعة الإسلامية، لا سيما ما يتعلق بالإفتاء والاجتهاد وضبط المعايير الدينية والأخلاقية.

في هذا السياق، تُطرح تساؤلات جوهرية حول قدرة الذكاء الاصطناعي على فهم تعقيدات النصوص الشرعية من جهة، واستيعاب روح المقاصد الإسلامية من جهة ثانية. كما يُثار نقاش حول مدى إمكانية الوثوق بهذا الذكاء في ميدانٍ ظل حكرا على اجتهاد العلماء ونفاذ بصيرة الفقهاء.

انفتاح مشروط

وفي هذا الإطار، قال محسن اليرماني، باحث في الفكر والعقيدة ومقارنة الأديان، إن “الذكاء الاصطناعي يعد من أهم الوسائل ذات التأثير الكبير في تطور العديد من حقول المعرفة الإنسانية، وتنمية الكثير من مجالات الحياة، ولا شك في أن تأثيره سيمتد ليشمل العلوم الإسلامية أيضا”.

وأضاف اليرماني، في تصريح لجريدة هسبريس الإلكترونية، أن “الإسلام يتسم بقدرته على مواكبة التطورات التي تعرفها البشرية؛ بيد أن توظيف الذكاء الاصطناعي في مجال العلوم الشرعية مقارنة بباقي المجالات الأخرى لا يزال توظيفه ضيقا ومحدودا”.

وأضاف المتحدث ذاته أنه “أمام تسارع وتيرة تطور أنظمة الذكاء الاصطناعي، بات من الضروري على العلماء والدارسين والمهتمين بالعلوم الشرعية الانفتاح الإيجابي على الذكاء الاصطناعي في عصر الثورة الرقمية، والاستفادة من منافعه”، مؤكدا أن “انفتاح الدين الإسلامي وعلومه على الذكاء الاصطناعي ينبغي أن يكون وفق منهج الإسلام وتعليماته، وأن يتم ذلك وفق رؤية منسجمة ومتكاملة مع تصورات الدين ومقاصده”.

وأوضح الباحث في الفكر والعقيدة ومقارنة الأديان أن “ما يتم إنتاجه عبر الذكاء الاصطناعي تنبغي مراجعته من قبل المختصين في مجال العلوم الإسلامية؛ فما كان متلائما مع عقائد الإسلام وتشريعاته يمكن العمل به وتثمينه وتوظيفه لتنمية العلوم الإسلامية في مجال الاجتهاد والفتوى وفي مجال إيجاد الحلول للنوازل لضمان مسايرة المستجدات، وما كان مخالفا لأحكام الدين القطعية فلا ينبغي الأخذ به”.

وأكد اليرماني أن “العلوم الإسلامية شهدت تطورا كبيرا بفضل تفاعلها المستمر مع ما توصل إليه الإنسان من اختراعات تكنولوجية”، مشيرا إلى أنه “في عهد النبي الكريم اقتصر أمر تدوين القرآن الكريم بما كان متاحا آنذاك من وسائل التوثيق والكتابة. أما اليوم، وما عرفته الإنسانية من تقدم تكنولوجي، نجد مصاحف إلكترونية وموسوعات حديثية ومصادر في مختلف العلوم الإسلامية أسهمت في تيسير البحث”.

ومن هذا المنطلق، قال الباحث سالف الذكر: “أرى أن الذكاء الاصطناعي لن يتوقف عند هذا الحد. ولذلك، ينبغي لعلماء الدين الإسلامي اقتحام مجال الذكاء الاصطناعي وفق منهجية تجمع بين فقه الشرع والدين من جهة، ومعرفة دقيقة بما يقع من متغيرات في الواقع من جهة أخرى”.

وأبرز اليرماني أن “الذكاء الاصطناعي في طريقه إلى التفوق في مختلف العلوم؛ بما في ذلك إنتاج الفتاوى الشرعية، والفكر الإسلامي، والمعرفة الإسلامية عموما. ولا شك في أن إعمال المنهج النقدي كفيل بأن يمكن الإنسان من التمييز بين الغث والسمين، وبين الحقيقي والمزيف، وبين الحق والباطل، وبين الهدى والضلال. لذلك، ينبغي على المناهج التعليمية أن تولي أهمية قصوى لتنمية ملكة التفكير النقدي”.

بين القبول والرفض

محمد لبيتي، خطيب جمعة وباحث في الفكر الإسلامي، قال إن “التعامل مع الذكاء الاصطناعي هو التعامل مع كل شيء جديد يظهر على الساحة، والإسلام قادر على أن يؤطر بإجاباته وبتوجهاته كل مستجدات العالم؛ لأن هذه خاصية من خاصياته وهي المرونة والقدرة على التجديد، ويفتح باب الاجتهاد دائما لكي يقدم الإجابات عن كل ما يستجد في الواقع”.

وأوضح لبيتي، في تصريح لهسبريس، أن “الذكاء الاصطناعي ما هو إلا واحدة من هذه الإبداعات الإنسانية الجديدة التي يمكن أن يقدم الإسلام فيها إجابات واضحة وقوية؛ بل إنه قد يكون قوة اقتراحية تؤطر هذا المستجد وتوجهه نحو الوجهة الصحيحة”.

وأضاف الباحث في الفكر الإسلامي أن “الذكاء الاصطناعي ليس ذكاء آلة، وإنما هو ذكاء إنساني، ونتيجة للبحث الإنساني الذي يدعو إليه الإسلام بدعوته الدائمة نحو العلم والنظر والتفكر، ونحو تقديم الجديد المفيد للإنسانية بما يحقق سعادتها في الدارين”، موردا أن “موقف الإسلام من الذكاء الاصطناعي كموقفه من كل المستجدات التي تؤطر دائما بنفعها للإنسان وموافقتها للضوابط الشرعية؛ وبالتالي فكلما كان هذا الذكاء الاصطناعي منسجما مع الأسس العقلية والضوابط الشرعية فإنه مقبول بدون تحفظ”.

وأكد المتحدث ذاته أن “انسجام الذكاء الاصطناعي مع العقل الإنساني يعني أن يكون نوعا من الخدمة التي تقدم للإنسان بناء على آليات عقلية وضوابط موضوعية، عكس الذكاء الذي قد يكون موجها نحو خدمة أجندات أو اتجاهات معينة”، منبها إلى أنه “إذا كان هذا الذكاء محايدا وعقلانيا ويعتمد على مصادر المعلومة المختلفة، فإنه مقبول على كل حال، ولا يشكل خطرا على هذا الدين، بل قد يشكل خدمة كبيرة له”.

وأشار خطيب الجمعة إلى أن “الملاحظة التي يمكن توجيهها إلى الذكاء الاصطناعي تتعلق ببعض الإجابات التي قد يقدمها في القضايا الفقهية أو الدينية، والتي تقتضي اجتهادا واستفراغا للوسع في استنباط الأحكام الشرعية من الأدلة التفصيلية، لا الاكتفاء بتجميع معلومات قد لا تكون مناسبة للواقع، أو لا تراعي مختلف مصادر التشريع الإسلامي”.

وأبرز لبيتي أن “بعض أنواع الذكاء الاصطناعي لا تتجرأ على الفتوى ولا تعطي موقفا واضحا؛ بل تُحيل إلى ضرورة الرجوع إلى العلماء، وهذا أمر جيد”، موضحا بالقول: “لقد جربنا ذلك مع مجموعة من أنواعه، فوجدنا أنها تتحاشى الإجابة عن القضايا الفقهية المعقدة؛ مما يمنع اختزال الفتوى في تجميع معلومات من مواقع متعددة، فالاجتهاد لا يحتاج فقط إلى فقه الدين، بل إلى فقه الواقع والمآلات والأولويات، وهي أمور لا يراعيها الذكاء الاصطناعي عموما”.

وسيلة للتجديد

نبه لبيتي إلى أنه “إذا كان الذكاء الاصطناعي يتحفظ في هذه المسائل، فذلك مقبول، وإلا فلا ينبغي اعتبار إجاباته ناجزة وكاملة يُبنى عليها العمل. أما النوازل المعاصرة المرتبطة بالتكنولوجيا، فينبغي الحذر في الإفتاء بها، إذ لا يجوز الإباحة أو التحريم بإطلاق؛ بل ينبغي ربط الحكم بنوع الذكاء الاصطناعي وطريقة اشتغاله، حتى يتم إرشاد الناس إلى النوع الآمن والتحذير من غيره”، مؤكدا أن “الأحكام يجب أن تصدر بناء على دراسة كل نوع على حدة”.

وورد ضمن توضيحات لبيتي أن “واقع التدين في ظل التطور التكنولوجي يفرض على علماء الإسلام أن يكونوا متيقظين ومنفتحين في الآن ذاته؛ لأن الذكاء الاصطناعي أصبح واقعا لا يمكن إنكاره، والجميع يتعامل معه، صغارا وكبارا، علماء ومتعلمين.. وبالتالي، وجب التعامل معه بانفتاح وحذر”.

وقال الباحث في الفكر الإسلامي إن “هذا الانفتاح ضروري؛ لأن الإسلام منفتح على كل جديد، والاجتهاد فيه مفتوح إلى أن تقوم الساعة”، مُذكرا بقول الرسول الكريم: ‘إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر واحد’، موضحا أن “المجتهد مأجور في كل الحالات. ولذلك، يجب الاجتهاد لتقديم الإجابات المناسبة، ويمكن الانطلاق في ذلك من الذكاء الاصطناعي نفسه”.

وشدد محمد لبيتي على أن “هذا الدين متجدد، ويتجدد بأفكار نيرة ومتجددة، وكما قال الرسول الكريم: ‘إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها’، وقد يكون الذكاء الاصطناعي وسيلة من وسائل هذا التجديد، لأنه يتيح للعلماء جمع المعلومات حول موضوع معين بسرعة وسهولة، مما قد يوفر عليهم شهورا من البحث”.

وختم خطيب الجمعة تصريحه بالإشارة إلى أن “العلماء يستطيعون الاستناد إلى الذكاء الاصطناعي في توجيه بحوثهم والتعامل مع المعطيات المتوفرة حول موضوع معين؛ وهو ما يشبه ما بدأه القدماء في التفسير الموضوعي وضوابط فهم النص الشرعي”، موضحا أن “القدماء كانوا يؤكدون على أهمية جمع كل المعطيات حول موضوع واحد للخروج بفهم دقيق وشامل؛ لكن في الوقت نفسه يجب الحذر من الذكاء الاصطناعي، لأن أدواته ليست دوما محايدة، وقد تعكس توجهات منشئيها أو البلدان التي أنتجتها. ولذلك لا ينبغي اعتبار نتائجه نهائية؛ بل يجب أن يتعامل معها المختصون كل في مجاله”.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق