من جديد، يجد الجنوب السوري نفسه في عين العاصفة، ولكن هذه المرة يبدو أن الفتيل أشعل من داخل البيت الدرزي ذاته. فمن مدينة جرمانا شرق دمشق إلى صحنايا جنوب غرب العاصمة، مروراً بريف السويداء، تعيش مناطق الدروز واحدة من أعقد موجات التصعيد العسكري والطائفي منذ بداية الحرب السورية عام 2011.
ما بدأ بتسجيل صوتي منسوب لرجل درزي يهاجم فيه رموزًا إسلامية، تحوّل إلى حرب شوارع مفتوحة، ثم اشتباكات بالأسلحة الرشاشة وقذائف الـRPG، قبل أن تمتد التداعيات إلى قصف جوي إسرائيلي نادر على أطراف دمشق، في تصعيد يثير تساؤلات خطيرة حول أهدافه وخلفياته وتوقيته.
جرمانا: شرارة الغضب تشتعل
الشرارة الأولى انطلقت من مدينة جرمانا، ذات الأغلبية الدرزية جنوب شرقي دمشق، حين انتشر تسجيل صوتي مسيء يُنسب إلى أحد أبنائها. الغضب انتشر بسرعة، وجماعات مسلحة من بلدات مجاورة، خصوصاً المليحة، دخلت المدينة لمحاسبة الفاعل.
تحوّلت المشاعر إلى اشتباكات مسلحة عنيفة، أوقعت 13 قتيلاً، ودفعت وزارة الداخلية السورية إلى إصدار بيان أكدت فيه أن الاشتباكات "اندلعت بين مجموعات من داخل وخارج جرمانا"، وأن من بين الضحايا عناصر من قوى الأمن.
صحنايا: ساحة جديدة للاشتباك
لم تمضِ 24 ساعة حتى تمدد التوتر إلى أشرفية صحنايا، البلدة ذات الأغلبية الدرزية والمسيحية جنوب غرب دمشق. بحسب وزارة الإعلام السورية، حاول رتل مسلح التحرك من صحنايا نحو جرمانا، ليصطدم بحاجز أمني وتتجدد الاشتباكات.
القصف استهدف حواجز أمنية ومركبات مدنية، وأسفر عن مقتل ستة مدنيين، ووقوع عشرات الجرحى. وتمكنت القوات الحكومية لاحقًا من السيطرة على البلدة بالكامل، مع فرض طوق أمني شامل، وعمليات دهم لمصادرة الأسلحة.
السويداء: معقل الدروز يشتعل مجددًا
في موازاة التصعيد بريف دمشق، شهد ريف السويداء اشتباكات عنيفة بين أبناء الطائفة الدرزية وقوات حكومية، أدّت إلى مقتل 4 دروز، بحسب المرصد السوري لحقوق الإنسان. كما أفادت تقارير محلية عن "كمين غادر" أودى بحياة عشرات المقاتلين أثناء توجههم من السويداء إلى صحنايا.
المرصد السوري أكد ارتفاع عدد القتلى إلى 74 شخصًا خلال أقل من 72 ساعة، مشيرًا إلى أن المواجهات شملت اشتباكات مباشرة وعمليات قصف وكمائن نفذتها قوات من وزارتي الدفاع والداخلية ومجموعات رديفة.
إسرائيل تدخل على الخط
وفي تطور لافت، أعلن الجيش الإسرائيلي يوم الأربعاء عن شن هجوم تحذيري ضد مجموعة "متطرفة" كانت تستعد لمهاجمة دروز في صحنايا. الانفجارات التي وقعت في البلدة تزامنت مع تحليق مكثف للطائرات الإسرائيلية، ما تسبب في إصابات عدة في صفوف القوات السورية.
الخطوة الإسرائيلية جاءت وسط تحذيرات من محاولات لتهجير الدروز من مناطقهم قرب الحدود، كما قال الزعيم الدرزي اللبناني وليد جنبلاط، الذي دعا إلى تهدئة داخلية ورفض أي تدخل خارجي.
في موقف غير مسبوق، طالب شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز، حكمت الهجري، بتدخل دولي عاجل لحماية المدنيين. وقال في بيان حاد:
"لسنا دعاة انفصال، ولكننا لن نقبل بعد الآن أن نُقتل على يد عصابات تابعة لحكومة تدّعي الشرعية".
وأضاف: "نطلب قوات دولية لحفظ الأمن فوراً، فالمجازر ممنهجة وموثقة، ولم نعد نثق بالحكومة الحالية، التي تحوّلت إلى سلطة قمع وقتل".
هذه المطالبة وضعت الحكومة السورية في موقف حرج، وأعادت الجدل حول مستقبل العلاقة بين دمشق والطائفة الدرزية، التي لطالما تبنّت موقف الحياد الإيجابي في الصراع السوري.
الدولة ترد: دعوات التدخل غير مسؤولة
وزير الخارجية السوري، أسعد الشيباني، علّق سريعًا على تصريحات الهجري، محذرًا من "دعوات التدخل الخارجي"، التي قال إنها تفتح الباب أمام التقسيم والفوضى وتخدم الأجندات الغربية. وشدد على ضرورة الحفاظ على وحدة البلاد والابتعاد عن التصعيد الطائفي.
في محاولة لاحتواء الموقف، عُقد اجتماع موسع في داريا، جمع مشايخ الدروز مع محافظي ريف دمشق والسويداء والقنيطرة، وانتهى إلى اتفاق مبدئي لوقف إطلاق النار في جرمانا وصحنايا، وفق ما نقلته وكالة "سانا" الرسمية.
لكن مراقبين شككوا في قدرة هذا الاتفاق على الصمود، في ظل غياب الثقة، ووجود السلاح بأيدي مجموعات محلية خارجة عن السيطرة، ومخاوف من اتساع الاشتباكات إلى مناطق أخرى.
0 تعليق