يوميات حاج (3): الطواف في مدار القلب للعودة إلى مركز الروح

هسبيرس 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

الطواف حول الكعبة ليس مجرد حركة جسدية، ولا دورانًا فيزيائيًا حول بناء من حجر. هو، في جوهره، عودة إلى المركز؛ إلى النقطة التي انبثقت منها الروح أول مرة، إلى النور الأول، إلى البداية التي لا بداية لها. الكعبة ليست فقط قبلة الصلاة، بل رمزٌ للثبات وسط العاصفة، مركزٌ في عالمٍ متشظٍ، علامة على أن للكون محورًا، وأن في قلب الإنسان مركزًا يشبهها… يحتاج فقط إلى من يطوف.

منذ أن هبط الإنسان من جنة الطهارة الأولى، وهو يبحث عن مركز مفقود، عن توازن بين ما هو أرضي وما هو سماوي. والطواف يعيد تمثيل هذا التوازن، لا عبر كلمات ولا عبر أفكار؛ بل بفعل جسدي متكرّر يتجاوز العقل ويخاطب الروح. في كل دورة من السبع، يخفت صوت الذات قليلاً، ويعلو صوت الوجود. كأن الحاج يُفكّك نفسه قطعة قطعة، ويركّبها من جديد لا على صورته المعتادة، بل على صورة من يبحث عن الله. وقد قال تعالى:

﴿وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾ [الحج: 26]،

إشارة إلى أن الطواف فعلٌ له قداسة التهيئة والتطهير.

الكعبة ثابتة، لا تتحرك. والإنسان هو من يدور. وهذه الحركة تكشف الكثير: من الذي يتغيّر؟ من الذي يبحث؟ من الذي لا يستقر؟ إنها لحظة إدراك عميقة أن الله هو الثابت، وأننا نحن من نضيع، نبتعد، نقترب، وندور باحثين عن المعنى. وفي هذا الدوران، تعود كل المسافات إلى الصفر، وتصبح كل الاتجاهات واحدة، وتكفّ الخطوط عن التمدد، لتتحول إلى دوائر. الدائرة، التي لا بداية لها ولا نهاية، تصبح رمزًا للحياة نفسها، للدين نفسه، للسرّ الذي لا يُفك.

الطواف هو نقيض التملك. في الأسواق نحن نسير بخط مستقيم نحو الشيء. في الطواف، لا نصل إلى شيء، بل نطوف حوله. نحن لا نمسك بالكعبة، ولا ندير لها ظهورنا، بل نُبقيها على يسارنا في حركة مقصودة مفعمة بالتوقير. وهذا في ذاته درس وجودي: أن ما هو مقدّس لا يُمتلك، ولا يُقبض عليه، بل يُطاف حوله بإجلال، بإيقاع، بتسليم.

ثمّة ما يشبه الإيقاع الكوني في الطواف. أجساد تسير بانحناءة خفيفة، كأنها تتحرك على نبض غير مسموع، في موجة جماعية، صامتة وصاخبة في آن. ومن يتأمل الطواف من الأعلى، يراه كنهر دائري حيّ، كنجم يدور حول قلب الضوء. ولعلّ أجمل ما في الطواف أنه يُذيب الفرد في الجماعة دون أن يُفقده فردانيته. الكل يدور، لكن لكلٍ دعاؤه، كلٌّ يحمل وجعه، سره، رجاءه. وكلهم يشتركون في الحركة، كما لو أن هذه الأرض لا تستقيم إلا إن دار الإنسان فيها لا حول ذاته، بل حول المعنى.

وفي لحظة ما، يدرك الطائف أن الكعبة لا تسكن الحجر؛ بل تسكن داخله. وأن هذا الدوران كان تذكيرًا بحقيقة بسيطة: أن القلب لا يستقر إلا إذا دار حول ما هو أثبت منه، وأسمى منه، وأقرب إليه من حبل الوريد.

كما قال الله تعالى:

﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾ [ق: 16]،

و**﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ﴾** [الحديد: 4].

فالله، في كل اتجاه، والوجهة إليه ليست اتجاهًا مكانيًا، بل وجهة قلبية تتخذ الطواف وسيلة.

حينها، لا يعود الطواف فقط نسكًا، بل يصبح لغة، انتماءً إلى نظام أوسع، توقيعًا على عقد العودة، علامة على أنك بدأت المسير إلى ما لا يُدرَك بالعقل، بل يُذاق بالقلب.

الطواف ليس سبع دورات فحسب؛ بل هو سبع طبقات من الذات تتساقط، حتى يبقى الإنسان وجهًا لوجه مع مركزه، خفيفًا، صافيًا، قادرًا على أن يُعاد تشكيله في ضوء التجلي.

الطواف هو استجابة خفية لنداء سري قديم: أن أقبل. أن أدور. أن أعود.

ولعل من لم يطُف يومًا لا يعني أنه لم يزر مكة؛ بل ربما أنه لم يدُر حول معنى في حياته قط.

فليس كل من مشى قد طاف، وليس كل من دار قد عاد حقًا.

إن الطواف، في حقيقته، ليس حركة حول الكعبة؛ بل رجوع صامت إلى مركز الروح.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق