هناك لحظات في الحياة لا تُقاس بالزمن ولا تُروى بالأحداث؛ بل تُحفر في الذاكرة، لأنّها تختصر جوهر التجربة الإنسانية. من بين شعائر الحج، يبقى “السعي” لحظة فريدة، لا لِما فيها من حركة بين الصفا والمروة؛ بل لِما تختزنه من معانٍ تسير بنا من قلق القلب إلى يقينه، ومن عطش السؤال إلى نبع الإجابة.
في كل خطوة بين الجبلين، يُعاد تمثيل قصة البدء: كيف يبدأ الإنسان رحلته من خواء الواقع إلى امتلاء المعنى.
لا يعتبر السعي مجرد ركض بين جبلين؛ بل هو إعادة تمثيل لأعمق تجربة إنسانية عرفها التاريخ: الخوف، الفقد، الرجاء، ثم اليقين.
حين ترك إبراهيم عليه السلام زوجته هاجر ورضيعها إسماعيل في وادٍ لا زرع فيه، لم تكن البداية مأساة؛ بل كانت تمرينًا على التوكل المطلق.
في لحظة الذروة الإنسانية، حيث لا ماء، لا ظل، لا بشر، تقف هاجر وتسأل: “آلله أمرك بهذا؟” فيرد: “نعم”. فتقول الكلمة الخالدة التي هزّت جبال اليأس: “إذن، لا يضيّعنا”.
في لحظة السعي، تركض هاجر لا بحثًا عن معجزة؛ بل عن بذرة أمل. تنطلق من “الصفا”، وهو اسم مشتق من الصفاء والنقاء، إلى “المروة”، وهي من المروءة والصلابة. وكأن الرحلة بينهما هي رحلة النفس من لحظة صفاء القلب إلى قسوة الواقع، ومن ثم الرجوع.
سبع مرات تركض. لا تستسلم. لا تجلس. لا تنتظر الغوث أن يسقط من السماء. هي تعرف أن الله قادر؛ لكنها تفهم أن السعي هو من شروط الرجاء. ولذلك، كانت النتيجة: ﴿فَفَجَّرْنَا فِيهَا عُيُونًا﴾ [يس: 34]،
والماء لم يأتِ من السماء، بل نبع زمزم من تحت قدمي الرضيع.
السعي يُعلّمنا أن اليقين ليس نقيض الحركة، بل نتيجتها. هاجر لم تنتظر المعجزة، بل سعت إليها. وهذا هو الدرس: في أشد لحظات الضيق، لا يكفي أن نرفع أيدينا بالدعاء؛ بل أن نحرّك أقدامنا في اتجاه الرجاء. وقد قال الله تعالى: (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّىٰ﴾ [الليل: 4]،
والسعي هنا ليس مجرد جهد؛ بل تعبير عن النية الحقيقية، عن أن ما نطلبه لا يُنال ونحن ثابتون.
في كل حج، يعاد تمثيل هذا المشهد. لا أحد يمرّ بين الصفا والمروة دون أن يكون داخله “إسماعيل عطشان” ينتظر الفرج. السعي هو الرمز الأبدي لحالة الإنسان بين وعدين: وعد الألم، ووعد الأمل.
والقلوب التي تركض اليوم ليست مختلفة عن قلب هاجر، ولا العطش قد قلّ؛ لكن الله لا يزال يسمع، ولا يزال يقول كما قال: (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ [البقرة: 153].
وهكذا يصبح السعي درسًا وجوديًا لا يُمحى: أن تركض وأنت لا ترى الماء، لكنك ترى الله. أن تتحرك وأنت لا تملك سوى قلبك، وإيمانك. أن تفهم أن الجبال قد تكون قريبة؛ لكنّ المعنى منها أعمق من المسافة. في كل شهيق بين الجبلين، يولد يقين جديد.
في كل دمعة تسقط على الحجر، تُبعث حياة في صخر النفس.
في كل ركضة، يعود الإنسان إلى ذاته الأولى: طفل صغير، يبحث عن يدٍ خفية تربت على رأسه وتقول له: “اذهب، فلن يضيّعك الله”.
0 تعليق