مشاهد المصافحة والقبلات بين الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ورئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني في العاصمة الإيطالية لم تكن مجرد لقطة بروتوكولية عابرة، بل عكست تحولًا ملحوظًا في مسار علاقة اتسمت بالبرود والصدامات السياسية خلال الأشهر الماضية.
فبعد فصول من التوترات الصامتة بين باريس وروما، جاء اللقاء الأخير - وهو الثالث خلال أقل من شهر - ليؤكد على ما يصفه خبراء بأنه "تفاهم مرحلي تفرضه الضرورة السياسية الأوروبية".
"دبلوماسية الضرورة" تتقدم على الخلافات
يؤكد الخبير الفرنسي في العلاقات الفرنسية- الإيطالية، مارك لازار، أن هذا التقارب لا يعكس انسجامًا أيديولوجيًا، بقدر ما يعبّر عن تحوّل في منطق إدارة العلاقات الثنائية. ويقول: "ما يجمع باريس وروما اليوم ليس وحدة الرؤية، بل تقاطع المصالح في ملفات استراتيجية كبرى مثل الأمن، الهجرة، ومستقبل العلاقات الأوروبية- الأمريكية في ظل عودة محتملة لدونالد ترامب".
ويضيف لازار أن الطرفين يسعيان إلى تنسيق مواقفهما قبيل قمتي مجموعة السبع وحلف "الناتو"، في محاولة لاحتواء الانقسامات داخل الاتحاد الأوروبي.
من التهميش إلى إعادة التموضع
لم تكن العلاقة بين ماكرون وميلوني سهلة خلال العام الماضي. ففي حين اتخذ ماكرون موقفًا داعمًا لاستقلال القرار الأوروبي عن واشنطن، اختارت ميلوني الانحياز الصريح لتيار ترامب، وتبنّت شعاره "Make the West Great Again"، ما خلق شرخًا واضحًا في التوجهات الاستراتيجية بين البلدين.
التوتر بلغ ذروته مع استبعاد ميلوني من قمة في كييف شاركت فيها فرنسا وبريطانيا وألمانيا، وما تلاها من لقاءات مغلقة في ألبانيا. واعتبر مراقبون ذلك تهميشًا سياسيًا متعمدًا لإيطاليا، الأمر الذي أجبر الطرفين لاحقًا على مراجعة سياسات الإقصاء لصالح التنسيق المرحلي.
الأمن والهجرة والتوازن الأوروبي
البيان المشترك الصادر عن لقاء روما الأخير شدد على "تعزيز التزام البلدين من أجل أوروبا أكثر قوة وازدهارًا"، وهي صيغة فُسرت على أنها محاولة لإبراز توافق سياسي مؤسسي، رغم وجود خلافات عميقة في الرؤى.
وفي هذا الإطار، يرى لوران بودوان، أستاذ السياسات الأوروبية في معهد الدراسات السياسية بليون، أن ميلوني تسعى لاختراق بروكسل من الداخل بعد أن خفّضت نبرة خطابها الشعبوي، بينما يطمح ماكرون إلى قيادة محور أوروبي جديد يقود ملفي السيادة العسكرية والتكنولوجية، بما يتطلب الحد الأدنى من التفاهم مع روما، "البوابة الحيوية نحو المتوسط وشمال أفريقيا"، حسب تعبيره.
أما على صعيد الأمن والهجرة، فحضرت ملفات ليبيا وشرق المتوسط بقوة في المحادثات، وسط مساعٍ مشتركة لاحتواء النفوذ الروسي في المنطقة. وفيما لا يزال التنسيق حول الهجرة هشًا، أبدى الجانبان التزامًا بتفعيل معاهدة "الكرينال" الموقعة عام 2021 لتنظيم التعاون الدفاعي والأمني.
بداية مرحلة جديدة أم هدنة مؤقتة؟
رغم دفء اللقاءات والتصريحات المشتركة، يُجمع المراقبون على أن التفاهم بين باريس وروما يظل تكتيكيًا ومؤقتًا. إذ قال مارك لازار إن "الابتسامات لا تلغي واقع أن ماكرون وميلوني يمثلان رؤيتين متضادتين تمامًا لأوروبا: الأولى ليبرالية وحدوية، والثانية قومية شعبوية".
لكن يبقى اللافت، بحسب لازار، هو الاتفاق على تفعيل اللقاءات الثنائية بانتظام، مع الإعلان عن قمة مرتقبة في فرنسا مطلع عام 2026، وهو ما قد يمهّد لمرحلة أكثر نضجًا من "البراغماتية الثنائية" في عالم يشهد تحولات عميقة في موازين القوى الدولية.
للمزيد تابع
خليجيون نيوز على: فيسبوك | إكس | يوتيوب | إنستغرام | تيك توك
0 تعليق