يحلّ عيد الأضحى المبارك على الأمة الإسلامية كنسمة طاهرة تمسح عن القلوب تعب الأيام، وتغمر النفوس بالبهجة والسكينة، فهو العيد الكبير، الذي يحمل في طياته معاني عظيمة من الإيمان والتضحية والصبر، ويجسد أجمل صور التكافل الاجتماعي والروح الجماعية التي تميز المجتمعات المسلمة، ويأتي عيد الأضحى في العاشر من شهر ذي الحجة من كل عام هجري، عقب وقفة عرفات، ليكون ختامًا لمناسك الحج وأيامًا مباركة من الرحمة والمغفرة.
وتنبض شوارع العالم الإسلامي في صباح العيد بالحيوية والفرح، وتعلو أصوات التكبير منذ فجر اليوم العظيم، "الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد"، فتشعر الأرواح بقدسية اللحظة، ويتجدد في القلوب عهد الطاعة والامتثال لأوامر الله تعالى، اقتداءً بخليل الله إبراهيم عليه السلام، الذي ضرب أعظم مثال في التسليم لأمر الله حين استجاب لرؤياه بذبح ولده إسماعيل.

عيد الأضحى هو طقس اجتماعي وروحي يحمل في مضمونه رسائل إنسانية رفيعة، ففيه تقام صلاة العيد الجامعة، وتُذبح الأضاحي تقربًا إلى الله، ثم توزع لحومها على الفقراء والمحتاجين، فيتساوى الجميع على مائدة واحدة من الرحمة والكرم، وتنشط صلات الأرحام، وتُبادل التهاني، وتُعمر البيوت بالزيارات والضحكات وملابس العيد الجديدة التي تفرح الكبار قبل الصغار، ويكتسب العيد أهمية خاصة في قلوب المسلمين لأنه يحمل ذكريات عظيمة من سيرة الأنبياء، ويجدد الروابط بين الإنسان وخالقه، وبين الفرد ومجتمعه، وهو فرصة للتسامح ومحو الخلافات، ولإعادة ترتيب الأولويات، حيث يعلو صوت القيم على صخب الحياة اليومية.
وتعيش الأمة الإسلامية في هذه الأيام لحظات روحانية سامية، خاصةً مع متابعة مناسك الحج على شاشات التلفاز، وقلوب الملايين تهفو إلى بيت الله الحرام، حيث يقف الحجاج على صعيد عرفات، ويتضرعون إلى الله بكل لغات العالم، في مشهد يعكس وحدة الأمة وتنوعها في آنٍ واحد، وتذوب الفروق الطبقية، وتُغلق أبواب الحزن، ويُفتح باب الفرح على مصراعيه، فهو عيد التضحية والكرم، عيد الرحمة والسلام، وعيد اللقاء بين الأرض والسماء.

تاجر جمال: موسم خير للغني والفقير والجملي عمره ما يخذل اللي يضحّي بيه
في قلب مدينة شبين القناطر بمحافظة القليوبية، وتحديدًا في أحد أركان السوق الشعبي القديم، يجلس "المعلم عربي أبو إسماعيل"، رجل تخطى الستين عامًا، وورث عن أجداده تجارة الجِمال، فصار أحد أشهر الوجوه في سوق الإبل بمصر، وعلى مدار العام يعمل السوق بهدوء نسبي، لكن مع اقتراب عيد الأضحى المبارك، يتحوّل إلى خلية نحل، ويصبح "موسم الجمال" موسمًا للرزق والبهجة لا يُشبهه أي موسم آخر، ووسط ضجيج السوق وروائح العلف والشمس الحارقة، يظل المعلم “عربي” شاهدًا حيًا على علاقة المصريين القديمة بالجمل، التي تتجدد كل عام مع تكبيرات العيد وبهجة الأضحى، حين يعود الناس إلى الجمل، من باب العادة والبركة.
يصف “المعلم عربي” عيد الأضحى بأنه "العيد الكبير" للتجار والمربين، حيث تبلغ حركة البيع والشراء ذروتها، وتُقبل العائلات على اقتناء الأضاحي، سواء للذبح أو التربية، ويقول: "السوق شغّال طول السنة، لكن في العيد بنعيش موسم استثنائي، الناس بتدور على الجمل البلدي والمستورد والمغربي، وكل واحد ليه زبونه".

المعلم عربي: الناس بتحب تضحي بالجملي حتى لو بتحب العجالي
أوضح “المعلم عربي” أنه يمتلك في حظيرته أنواعًا متعددة من الجمال، الجمل البلدي المعروف بقوته وتحمله، والمغربي برقبته الطويلة ولحمه الأحمر قليل الدهون، والمستورد الذي يجمع بين كل الصفات، وأشار وهو يمرر يده على رقبة جمل ضخم "الجمل بيتدبح من عمر 3 سنين وطالع، والبيع بيكون على بعضه، مش بالكيلو، وسعره بيتراوح من 45 ألف لـ90 ألف، حسب النوع والعمر والوزن".
وأضاف “المعلم عربي”، أنه على الرغم من رواج لحوم العجول والبقر، غلا أن الكثير من الزبائن يفضلون اللحمة الجملي في عيد الأضحى، لأنها تعطي كمية لحم أكبر وتحتوي على دهون أقل، مؤكدًا "في ناس بتحب العجالي لكن يوم العيد لازم جملي، لأن لحمه نضيف، وطعمه غني، وبيدي كمية لحم أكتر من العجالي، وده مهم للناس اللي بتوزع لحمة كتير".

اللحم الجملي نظيف.. لا كيماويات ولا أدوية
ويتفاخر المعلم عربي بنقاء لحم الجمل الذي يربيه، مؤكدًا أنه لا يحتاج للأدوية أو الكيماويات،قائلًا "الجمل لو تعب بيعالج نفسه، مبيتعبش زي البهايم التانية، بياكل أنضف أكل، فول وعلف ودشيشة، ولو حتى جاع عشر أيام مش هيأكل إلا أنضف حاجة، وده معناه أنه لحمه مفيهوش أمراض ولا إضافات".
وأشار “عربي” أنه رغم أهمية العيد، إلا أن القدرة الشرائية هذا العام تراجعت إلى النصف بسبب ارتفاع أسعار الأعلاف والنقل وتكاليف التربية، موضحًا “الناس تعبانة والعلف غلي، والنقل غلي، وكل حاجة بقت مكلفة، والمشتري بيدور على الأرخص عشان عنده التزامات تانية كتير”.

سوق دراو وبرقاش.. محطات الإبل الكبرى في مصر
وأشار “المعلم عربي” إلى أن هناك أسواقًا كبرى تتحكم في حركة الجمال في مصر، أبرزها سوق دراو في أسوان، وسوق برقاش، وسوق إمبابة في الجيزة، حيث تأتي الإبل من السودان وموريتانيا وتُنقل إلى المحافظات، موضحًا "إحنا بنغير مرعى الجمل كل 3 شهور، وندي له عشب وعلف بلدي، عشان يبقى لحمه نضيف ومليان صحة".

وأوضح أن الجمل الواحد قد يتشارك فيه من شخصين إلى سبعة أشخاص، فهو أضحية شرعية تجزئ عن سبعة أفراد، ويُقبل عليه أهالي شبين القناطر والعزب المجاورة وخاصة “العُربان”، قائلًا "فيه عائلات بتحب تضحي بجمل ويتقسموا عليه، لأن لحمه كتير، وأضحية مقبولة، والجمل بيتشارك فيه سبعة أفراد زي ما الشرع قال"، وأضاف بفخر "بيجولي ناس من بلاد بعيدة علشان لبن الجمال، لأنه مفيد للكبد، وفيه شفاء من أمراض كتير، ولبنه غني ودسم وكله فايدة، وده بيدينا إحساس إن تجارتنا فيها بركة من ربنا".
وفي ختام حديثه، يبتسم المعلم عربي معربًا عن فرحته بقدوم العيد قائلًا "العيد فرحة لينا زي باقي الناس، يمكن إحنا بنشوف فيه رزق كمان، لكنه في الأول والآخر موسم خير للغني والفقير، والجملي عمره ما يخذل اللي يضحّي بيه".
-------------------------------------

تاجر عجالي: موسم عيد الأضحى لحمة وفرحة وشراكة على سنة الذبح
في قلب الريف المصري، وبين الحقول الهادئة وروائح العلف وضجيج صوت الماشية، تقف مزرعة عجول وبقر وخراف شاهدًا حيًا على روح عيد الأضحى المبارك، وهناك يعمل الشقيقان سامح ومحمد صباح منذ سنوات في تسمين وبيع العجول والخرفان والجاموس، وهي مهنة توارثوها عن الآباء، وباتت جزءًا لا يتجزأ من حياتهم ومصدر رزقهم الأساسي، ومع اقتراب موسم الأضاحي، تتحوّل المزرعة إلى ورشة متكاملة، حيث تختلط فيها أنفاس البهائم مع نداءات الزبائن وأصوات الشراء، وتعلو فوقها جميعًا بهجة العيد.
يقول سامح صباح، وهو يُمسك بإحدى دفاتر الوزن، إن عيد الأضحى بالنسبة لهم موسم استثنائي للرزق، وفرحة سنوية ينتظرها المربّون والزبائن على حد سواء، ويوضح قائلًا: "الناس بتبقى مستنيا العيد، لأنه عيد لحمة وفرحة وسنة لازم الناس تحييها، حتى اللي معهوش بيحاول يشارك ولو بجزء من عجل".
وأضاف “صباح” أنه تتنوع الحيوانات ما بين عجول بلدي اتربت هنا من أول يوم، وخرفان وجاموس، وعجول مستوردة من البرازيل وفرنسا، موضحًا أن لكل نوع سعره ومواصفاته، وكل زبون له تفضيل مختلف، ويُضيف سامح: "في ناس بتحب البلدي، وفي ناس بتدور على المستورد عشان لحمه طري أكتر، مشيرًا إلى أن الخرفان عليها إقبال بس الناس بتحب تشارك أكتر في العجول عشان الكمية بتكفي عيلة كاملة".

أسعار الأضاحي مختلفة.. والطلب مستمر
وفيما يتعلق بالسعر، أوضح “صباح” أن الأسعار تختلف حسب النوع والوزن، وتبدأ من 180 إلى 185 جنيهًا للكيلو الصاحي للعجول، بينما الخرفان تبدأ من 220 وتصل إلى 240 جنيهًا للكيلو، وأن العجول تُباع من وزن 350 كيلو حتى 800 كيلو، وكلما زاد الوزن يزداد السعر، أما أسعار العجول الكاملة، فقد تصل إلى 120 أو 130 ألف جنيه حسب الجودة والوزن.
وأكد أنه رغم الظروف الاقتصادية الصعبة وارتفاع أسعار الأعلاف، إلا أنه " هناك ناس كتير بتحافظ على سنة الذبح، وبتدخل أسهم في العجول، سبعة في العجل الواحد، وده بيسهل عليهم السعر، وكل واحد بياخد حوالي 40 أو 50 كيلو لحم، وبيفرح بالأضحية".
وفيما يتعلق بلحوم الأضاحي، لا تُترك الأمور للصدفة، فيؤكد “سامح” أنهم يستخدمون 16 نوع علف مختلف، يتم خلطها تحت إشراف طبي بيطري صارم، وكل 15 يومًا، يُعرض العجل على الميزان لمتابعة الوزن، والتأكد من حالته الصحية، فيقول "العجل لو مبيزيدش أو باين عليه تعب، بنرجع نشوف التغذية أو نكشف عليه فورًا، لازم نضمن لحمة نظيفة وصحية للناس".

بين الشادر والمذبح.. عيد الأضحى له طقوسه
ويُنصب شادر كبير مزوّد بكراسي للزوار خارج المذبح، ويوفرون للزبائن كل سُبل الراحة، فالبعض يُفضّل الذبح في المزرعة داخل المذبح المجهّز، بينما يُصر آخرون على الذبح في البيت وسط الأهل والجيران، ويوضح محمد: "في ناس بتاخد العجل حي، وفي ناس بتحب تدبح هنا وتاخد اللحمة جاهزة، متوزعة في أكياس أو أطباق، أوزان نصف كيلو أو كيلو جاهزة للتوزيع أو التخزين، وحتى العفشة والممبار والكوارع، بنجهزهم على أعلى مستوى".
وأضاف “سامح” في ختام حديثه، أنه رغم أن القدرة الشرائية قلت هذا العام، إلا أن "العيد بيجمع الكل، الفقير والغني"، وهو مناسبة يتشارك فيها الناس الفرح واللحم والدين، واختتم حديثه بابتسامة: "إحنا في شغلانة فيها تعب ومسؤولية، لكن العيد بيخلينا نحس بالبهجة الحقيقية، لما الناس تيجي وتاخد أضحيتها وتمشي مبسوطة، بنعرف إن تعبنا مراحش هدر".

عجل "لأهل الله".. حين تصبح التجارة بابًا للبركة
في أحد أركان الريف المصري المغمور برائحة التراب النقي وعطر العلف الدافئ، يقف رجل بسيط الوجه، عميق الإيمان، عزيز النفس، يُدعى الحاج سامح صباح، صاحب مزرعة لتربية العجول والأبقار والجاموس، يتحدث وكأن كلماته من ذهب، فيقول: "الرزق رزق ربنا، واللي بتكون لله مبتروحش.. عندنا في كل عنبر عجل بنسميه لأهل الله، مخصصينه لله، ومش بنبيعه، وده اللي بيزود البركة في الباقي، ويوصل وزنه أوقات لـ750 كيلو، بس عمره ما بيطلع من المزرعة، بيبقى لوجه الله الكريم".
وتضم المزرعة عشرات الرؤوس من الماشية بأنواعها المختلفة، من العجول البلدي التي وُلدت وتربّت في المكان ذاته، إلى العجول المستوردة البرازيلية والفرنسية المعروفة بسرعة التسمين وكثرة الإنتاج، ومرورًا بأنواع الجاموس البلدي ذات اللون الداكن والحليب الغزير، وحتى الخرفان البلدية والهجين التي يحبها كثيرون في الأضاحي.
ويتميز البقر البلدي بقوة تحمّله وسهولة التكيّف مع البيئة، أما المستورد الفرنسي والبرازيلي فغالبًا ما يكون مرغوبًا بسبب حجم العضلات الكبير، وسرعة نموه في فترات قصيرة، ويُفضل البعض لحوم الجاموس لما فيها من مذاق غني ومحتوى بروتيني مرتفع.
ولا يكتفي الحاج سامح بالرعاية الصحية والتغذية الجيدة للحيوانات، بل يولي اهتمامًا بالغًا بـ النظافة والتهوية داخل المزرعة، فيقول: "الزبون أول ما يدخل لازم يشم ريحة مقبولة، ويحس إنه في مكان نضيف.. لو المكان ريحته مش كويسة أو شكله وحش، حتى لو اللحمة نظيفة، الزبون هينفر، والنظافة جزء من احترامنا للشغلانة واحترامنا للناس".
وأوضح “سامح” أن أسعار العجول تبدأ من 75 ألف جنيه، وقد تصل إلى 130 ألفًا حسب النوع والوزن والصحة، بينما سعر الكيلو الصاحي يتراوح من 180 إلى 185 جنيهًا، والخرفان ما بين 220 و240 جنيهًا للكيلو الصاحي. أما عن الأوزان، فالعجول تُباع عادةً من وزن 350 كيلو وحتى 800 كيلو، ويُفضّل الناس المشاركة في العجول الكبيرة لتوزيع السعر واللحم.
يضيف : "في العيد بييجوا الناس يشاركوا في عجل واحد، سبعة أفراد، وكل واحد بيطلع له 40 أو 50 كيلو لحم صافي، وبيبقى فرحان إنه ذبح وضحّى، واتبّع سنة النبي عليه الصلاة والسلام"، مشيرًا إلى أن المزرعة لا تترك العناية للحظ أو الصدفة، فكل 15 يومًا يُوزن العجل، ويُتابع حالته الصحية مع طبيب بيطري مختص، وتُستخدم 16 نوعًا مختلفًا من العلف تُخلط بعناية، لضمان النمو السليم وسرعة التسمين، منها الفول، والدشيشة، والعلف الأخضر المجفف، وتُقدم بكميات متوازنة.
وينهي الحاج سامح كلامه بابتسامة راضية: "البركة مش في البيع بس.. البركة في النية، في عجل لأهل الله، وفي الراحة اللي بتخلي الزبون يرجعلك كل سنة، والأهم إننا نفضل دايمًا بنحب شغلنا ونعمل فيه بضمير.. علشان الرزق مش بس فلوس، الرزق كمان رضا الناس ودعوة طيبة بعد الذبح".




0 تعليق