ملف الصحراء في إفريقيا .. الدبلوماسية المغربية تُسقط شعارات الجزائر

هسبيرس 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

في عالم لم تعد تصنع فيه الخطابات الإيديولوجية والثورية النفوذ، ولا تصنع التحالفات، تبرز السياسة الخارجية المغربية التي نجحت في إعادة رسم التوازنات، خاصة على الساحة الإفريقية، من خلال مقاربة ذكية تمزج بين الفعل الدبلوماسي والفعل التنموي، مكّنت الرباط من تحقيق اختراقات مهمة في إطار تدبير ملف وحدتها الترابية، مقتحمة الحصن الانفصالي الذي تقوده الجزائر وجنوب إفريقيا، ويضم عدداً من الدول الأخرى التي كانت تدعم الانفصاليين في تندوف، قبل أن تراجع مواقفها وتُغلّب مصالحها على ما دونها من الاعتبارات الأخرى التي لم يعد يؤمن بها مستقبل القارة السمراء.

وفي المقابل تعيش السياسة الخارجية والدبلوماسية الجزائرية على وقع توالي الانتكاسات، إذ فشلت في توسيع دائرة الدعم الإفريقي للطرح الانفصالي في الصحراء المغربية، الذي تقلّص بشكل كبير، خاصة بعد الموقفين الكيني والغاني الأخيرين الداعمين لسيادة المغرب على أقاليمه الجنوبية، لتجد نفسها محاصرة بخطاب تقليدي وشعارات باردة تجاوزها الزمن، نتيجة سوء تقديرها التحولات العميقة التي تعيشها القارة الإفريقية، التي أصبحت دولها منشغلة أكثر بقضايا التنمية والاقتصاد، وليس الاستمرار في دعم كيانات غير دولاتية تعطل الاندماج الإفريقي وتكرّس الانقسام داخل القارة.

دبلوماسية مغربية وخارطة جيوسياسية

هشام معتضد، الباحث في الشؤون الإستراتيجية، قال إن “التفوق المغربي في كسب دعم الدول الإفريقية لا ينبع فقط من قوة الطرح السياسي، بل من تكامل أدوات الرباط الدبلوماسية والاقتصادية والتنموية في القارة”، مضيفًا أن “المغرب لا يكتفي بطرح موقفه السيادي على الصحراء من زاوية قانونية أو عاطفية، بل يقدّمه في حزمة متكاملة من المصالح المشتركة، كما أن التعاون الأمني، والمشاريع الاقتصادية، والمبادرات الاجتماعية، خصوصًا في قطاعات الفلاحة، والصحة، والتعليم، جعلت من المملكة شريكًا حقيقيًا للدول الإفريقية، وليس مجرد طرف في نزاع إقليمي”.

في المقابل أوضح معتضد أن “الإستراتيجية الجزائرية تعاني من نمط دبلوماسي تقليدي قائم على الشعارات التاريخية والتضامن الإيديولوجي، وهو ما لم يعد مقنعًا في منطق العلاقات الدولية المعاصرة”، مبرزًا أن “الجزائر تستمر في الدفاع عن أطروحة الانفصال مستندة إلى منطق الحرب الباردة وخطاب ‘تقرير المصير’، لكنها لا تعرض على الدول الإفريقية المكاسب العملية أو الشراكات التنموية القادرة على ترجمة هذا الدعم إلى مصالح ملموسة، وهذا الجمود جعل خطابها يظهر كأنه خارج سياق تطورات القارة ومطالبها الواقعية”.

وتابع المتحدث ذاته بأن “الأداء المغربي يُظهر نضجًا تكتيكيًا في اختراق المعسكر الانفصالي داخل إفريقيا عبر سياسة ‘النَفَس الطويل’، فعودة المغرب إلى الاتحاد الإفريقي لم تكن فقط خطوة رمزية، بل مدخلًا لإعادة تشكيل التحالفات في قلب المؤسسة القارية، إذ إن اعتماد الرباط على دبلوماسية القمة، مع انفتاحها على دول محورية مثل نيجيريا وإثيوبيا ورواندا، ساهم في كسر الصورة النمطية عن الملف، وجعل العديد من الدول تعيد تقييم مواقفها بناءً على التوازن بين المبادئ والمصالح”.

وسجّل الباحث عينه أن “أحد الفروق الأساسية بين المقاربتين المغربية والجزائرية أن الرباط تطرح حلًا سياسيًا قابلًا للتنفيذ (الحكم الذاتي)، بينما الجزائر لا تطرح بديلًا واقعيًا سوى دعم كيان غير معترف به أمميًا؛ وهذا يضع الدول الإفريقية أمام خيارين: إما تأييد مشروع قابل للتنفيذ ضمن سيادة دولة مستقرة وفاعلة إقليميًا، أو الاستمرار في دعم كيان غير معترف به ولا يمتلك مقومات الدولة”.

وشرح المصرح لهسبريس أن “المغرب نجح في تحويل ملف الصحراء من ملف نزاع إلى ملف تنمية؛ ذلك أن الخطاب المغربي تغيّر من الدفاع إلى المبادرة، إذ يتم تسويق النموذج التنموي في الأقاليم الجنوبية كأداة لإقناع الدول الإفريقية بأن هذا الملف ليس فقط قضية سيادة، بل مشروع إقليمي يمكن أن يشكل قطب استقرار في منطقة الساحل والصحراء”.

وبيّن معتضد أن “التراجع الواضح في عدد الدول الإفريقية التي تعترف بـ’الجمهورية الصحراوية’ مقابل تزايد عدد القنصليات في مدن الصحراء المغربية يعكس ديناميكية ميدانية لا يمكن إنكارها، إذ إن الرباط لا تكتفي بالتصريحات، بل تعززها بأفعال على الأرض، بينما تُراكم الجزائر الخسائر الدبلوماسية دون مراجعة نقدية لأدواتها التقليدية”، مشيرًا إلى أن “هذا الاختلال في النتائج بين الطرفين يعود كذلك إلى اختلاف جذري في منطق الاشتغال السياسي؛ فالمغرب يشتغل بمنهج تصاعدي وتراكمي يراعي مصالح الدول الإفريقية، بينما تنطلق الجزائر من منطق رد الفعل والاستقطاب الإيديولوجي الذي فقد فعاليته في الزمن الإفريقي الجديد”.

وخلص المحلل ذاته إلى أن “الديناميكية المغربية داخل إفريقيا أصبحت واقعًا مؤسسيًا ومصلحيًا يصعب تجاوزه، في حين أن الطرح الجزائري يعاني من الانكماش والتراجع وفقدان الحلفاء”، وزاد: “من هذا المنطلق فإن الرباط بصدد إعادة رسم الخارطة الجيوسياسية للقارة من خلال مقاربة تقوم على الواقعية السياسية والبناء الاقتصادي، وهو ما يفسر توالي الانسحابات الإفريقية من المعسكر الانفصالي ودخولها تدريجيًا في مسار دعم الحل المغربي”.

انتكاسات جزائرية ورؤية شمولية

من جهته أوضح البراق شادي عبد السلام، خبير دولي في إدارة الأزمات وتحليل الصراع وتدبير المخاطر، أن “السياسة الخارجية الجزائرية تتعرض لانتكاسات دبلوماسية وسياسية متواترة ومتتالية في جميع الدوائر التي تشتغل عليها، نتيجة فقدان صانع القرار الدبلوماسي الرؤية المتبصّرة والواقعية التي تحدد مسارات تفاعلات السياسة الخارجية مع الملفات الإقليمية، بسبب ارتهانها للرغبات النفسية لـ’مقيم المرادية’ ومشغليه من جنرالات النظام العسكرتاري”.

وأشار البراق، في تصريح لجريدة هسبريس الإلكترونية، إلى “تصاعد حدة صراع الأجنحة داخل النظام النيوباتريمونيالي الجزائري، خاصة بعد الرجة الكبرى التي تعرض لها نتيجة الحراك الشعبي، والتغييرات التي اضطر النظام لإجرائها مؤخرًا على هيكل السلطة من خلال انقلابات وتصفيات قطاعية في مختلف مستويات الجهاز البيروقراطي والعسكري للدولة”، مضيفًا أن “هذا الصراع انعكس على مؤسسة الخارجية وجهازها البيروقراطي، إذ تعرف الوزارة صراع أجنحة داخلها يشكّل امتدادًا لصراع الجنرالات في مربع الحكم”.

وأبرز الخبير ذاته أن “الدبلوماسية الجزائرية ظلت لعقود، ومازالت، تفتقر إلى الجانب المهني في اختيار السفراء وتوزيع المهام الدبلوماسية، فمختلف الشخصيات التي تولت مهام دبلوماسية لتمثيل الجزائر هي شخصيات ذات فكر تقليدي ينهل من الفكر البومديني المتهالك، فغالبًا ما يتم اختيارها من قدماء المحاربين في الثورة الجزائرية، أو الوزراء المقالين على خلفية فضائح مالية أو إدارية، أو شخصيات في هرم السلطة مغضوب عليها ومُبعَدة من العمل السياسي، أو في إطار ترضيات حزبية أو بيروقراطية”.

وزاد المتحدث شارحًا أن “النقطة الجامعة بين هؤلاء هي أن بروفيلاتهم تنقصها الخبرة والحنكة الدبلوماسية، وهم غير مثقفين بثقافة عصرية، ومتشبعون بروح فرانكفونية مبتذلة، وغارقون في النمطية، وغير مدركين دورهم الدبلوماسي ورسالتهم السياسية”، مؤكدًا أن “هذا الوضع أثّر على الخط التحريري للدبلوماسية الجزائرية، وجعلها تفتقد إلى الوضوح والفهم الدقيق لمتطلبات المرحلة، فالملاحظ أنها توجد في حالة من التيه الدبلوماسي بسبب الارتجال والتسرع والخضوع للتجاذبات السياسية والعسكرية التي تتدخل في صياغة المواقف الدبلوماسية للجزائر”.

وشدد المصرّح لهسبريس على أن “النظام الجزائري اليوم يحاول إعادة صياغة العقيدة الدبلوماسية الجزائرية بما يتناسب وخططه التوسعية البومدينية، على حساب محيطه الإقليمي، من خلال الاستغلال البشع والرديء للقضية الفلسطينية، ومحاولة ربطها بنزاع مفتعل الهدف الأساسي من ورائه هو التدخل في الملفات الإقليمية، وتقديم الجزائر كعاصمة للوساطات الملغومة التي يبقى هدفها المستتر هو التدخل الجائر في سياسات دول الجوار”.

وأوضح البراق أنه “في ملف الصحراء المغربية، وهو الملف الدبلوماسي والعسكري الأكثر أهمية لدى النظام العسكري في الجزائر العاصمة، حاول النظام الجزائري تسخين جبهات الصراع وإدخال المغرب في صراع إقليمي، كان مآله الفشل الذريع إزاء النجاح الكبير الذي حققته الرباط في ملف الوحدة الترابية ميدانيًا، بتأمين معبر الكركرات الحدودي الدولي، وطرد ميليشيا البوليساريو الإرهابية من المنطقة العازلة شرق الجدار الأمني، حيث تم ضبط الأمن الإقليمي وفق معادلة جيوسياسية دقيقة واضحة المعالم، عنوانها الأبرز ‘السيادة المغربية خط أحمر'”، وواصل: “كما استطاع المغرب دبلوماسيًا وضع تصور جديد لعلاقة العالم بالأقاليم الجنوبية، عن طريق نهج ‘دبلوماسية القنصليات’ التي وفّرت التغطية السياسية للمقاربة المغربية الشاملة في التعاطي مع ملف الوحدة الترابية”.

وخلص الخبير الدولي ذاته إلى أن “ارتهان الدبلوماسية الجزائرية لرغبات صانع القرار العسكرتاري، برؤيته الشمولية وبفهمه الأمني الضيق لطبيعة التفاعلات الإقليمية، في غياب تأسيس فهم دبلوماسي للإشكالات الإقليمية، يجعلها جزءًا من العطب الإقليمي، وأحد محركات الصراع في المنطقة، بدل أن تكون، باعتبار حالة الاستقرار النسبية التي يعيشها النظام الجزائري، أحد صمامات الأمان الإقليمية”.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق