مع حلول فصل الصيف وعودة الجالية المغربية المقيمة بالخارج وتوافد السياح على مختلف مدن المملكة تعود إلى الواجهة ظاهرة التسول، التي تزداد انتشارًا بشكل لافت في الأماكن العامة، من الشوارع الرئيسية والمقاهي والأسواق إلى أبواب المساجد والإشارات الضوئية. مشهد لا يمر دون أن يثير الانتباه، ولا يخلو من تبعات اجتماعية واقتصادية وحتى رمزية، بالنظر إلى ما تخلفه الظاهرة من انطباع سلبي حول صورة المغرب.
من أولى الانعكاسات السلبية لظاهرة التسول في المغرب، خاصة خلال فترة الصيف، تأثيرها على السياحة، أحد أعمدة الاقتصاد الوطني؛ فالسائح الذي يواجه في كل خطوة مشاهد التسول لا يمكنه إلا أن يكوّن صورة قاتمة عن الوضع الاجتماعي والاقتصادي للبلد، خاصة حين يتكرر المشهد بشكل منظم أو عدواني في بعض الحالات. كما أن المواطنين العائدين من الخارج كثيرًا ما يعبرون عن صدمتهم من تفاقم الظاهرة، التي يعتبرونها انعكاسًا لغياب سياسات اجتماعية فعالة.
شبكات منظمة
وفي هذا الإطار قال محمد النحيلي، رئيس منظمة بدائل للطفولة والشباب وخبير في قضايا الطفولة والشباب والحماية الاجتماعية، إن “ظاهرة التسول في المغرب لم تعد مجرد سلوك فردي عابر، بل تحوّلت إلى ممارسة اجتماعية معقدة ومقلقة، تتعدد أسبابها وتتشابك أبعادها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وتفرز أنماطًا جديدة من الاستغلال، خاصة لفئات هشّة كالأطفال، النساء، كبار السن، والأشخاص في وضعية إعاقة”.
وتابع النحيلي ضمن تصريح لهسبريس: “ما نرصده ميدانيًا، خاصة في فصل الصيف، هو تصاعد في وتيرة التسول، وانتقالها من مجرد حاجة ظرفية إلى مهنة يومية لبعض الأفراد أو شبكات منظمة، تستغل الكرامة الإنسانية لأغراض ربحية. وقد أثبتت دراسات سابقة، من بينها بحث وطني لوزارة التنمية الاجتماعية، أن أزيد من 62% من المتسولين يمارسون التسول بشكل احترافي، أي إن الأمر لم يعد مرتبطًا بالفقر فقط، بل بشبكات تمتهن هذه الممارسات”.
وأكد الخبير في قضايا الطفولة والشباب والحماية الاجتماعية أن “الأخطر هو تسخير الأطفال والنساء في هذه الظاهرة”، وزاد: “نحن أمام استغلال حقيقي لبراءة الأطفال في إشارات المرور، أو اصطحابهم عنوة للتسول، بل ورصدنا في مواقف كثيرة مظاهر اصطناع الإعاقات والتظاهر بالمرض لاستدرار العطف، وهذا انتهاك صارخ للكرامة الإنسانية”.
وطالب النحيلي بضرورة “تشديد العقوبات القانونية، خاصة على الشبكات التي تستغل الطفولة والأشخاص ذوي الإعاقة، وعلى ممارسي التسول المهني”، مشيرا إلى أن “القانون الجنائي المغربي، من خلال فصوله 326 إلى 330، يوفر أساسًا قانونيًا رادعًا، لكن المشكل يكمن في ضعف التفعيل، وفي غياب التتبع الميداني الفعّال لهذه الظاهرة المتجددة”.
وأردف المتحدث ذاته: “منظمة بدائل للطفولة والشباب، إلى جانب شركائنا في المجتمع المدني، تنبّه منذ سنوات إلى أن الحل لا يكمن في المقاربة الأمنية وحدها، بل تجب المراهنة على ورش الحماية الاجتماعية الشاملة. تعميم التغطية الصحية، والدعم المباشر للأسر الفقيرة، وإعادة إدماج المتسولين في المجتمع عبر التكوين والمواكبة الاجتماعية، هو الطريق الأنسب للحد من الظاهرة”، وواصل: “كما نشدّد على ضرورة تأهيل وحدات حماية الطفولة في الأقاليم، وتوفير موارد بشرية مؤهلة ومستمرة، قادرة على رصد حالات الأطفال المتسولين، والتدخل الفوري لحمايتهم من أي استغلال محتمل. وفي السياق نفسه لا بد من تحصين الأسر الهشة عبر دعم مستدام، وبرامج تأهيل اقتصادية واجتماعية تنسجم مع رؤية الدولة الاجتماعية التي ينخرط فيها المغرب بقيادة جلالة الملك”.
واسترسل الفاعل المدني ذاته: “كما أن على المواطنين دورًا أساسيًا في محاربة التسول. المساهمة في تكريس هذه الظاهرة عن طريق العطاء العشوائي في الشارع لا يساعد المحتاجين الحقيقيين، بل يغذي الشبكات الاستغلالية. نحن ندعو الجميع إلى توجيه مساعداتهم إلى القنوات القانونية والمبادرات المجتمعية الجادة التي تشتغل وفق مبادئ الشفافية والنجاعة”.
وخلص النحيلي إلى أنه “لا يمكن أن نتصور مغربًا حداثيًا، منصفًا، يسير نحو تحقيق الدولة الاجتماعية، في ظل استمرار ظاهرة التسول في الشوارع والأماكن العامة، خاصة حين تصبح وسيلة للإثراء غير المشروع على حساب الفئات الهشة. الظاهرة تستوجب تعبئة جماعية، سياسية، قانونية، ومجتمعية، للحد منها، وحماية كرامة الإنسان”.
كأس العالم
في تعليقه على ظاهرة التسول، خاصة في ظل اقتراب تنظيم المغرب حدثا دوليا بحجم كأس العالم، اعتبر هشام أيوب، رئيس جمعية أنغام للثقافة والتنمية وعضو هيئة المساواة وتكافؤ الفرص بجهة الرباط سلا القنيطرة، أن هذه الظاهرة تُسيء لصورة البلاد، خصوصًا في لحظة تتجه فيها الأنظار نحو المملكة كبلد احتضان وتنظيم وتفاعل دولي.
وقال أيوب ضمن تصريح لهسبريس: “طالما انتظرنا تنظيم تظاهرة عالمية بحجم كأس العالم، ونعتبرها فرصة ثمينة يجب أن تُواكبها مسؤولية جماعية في معالجة الظواهر السلبية التي تمس صورة البلد، ومن بينها التسول، خاصة تسول الأطفال”.
وأوضح المتحدث ذاته أن دور جمعيات المجتمع المدني محوري في هذا الإطار، لكونها تتحمل مسؤولية التوعية والتحسيس بخطورة الظاهرة، والعمل على إيجاد بدائل اقتصادية وفرص عمل للفئات الهشة، مع التركيز على حماية الطفولة من الاستغلال، وأضاف أن “هناك نوعين من التسول: تسول منظم تقوده شبكات تتربح من استغلال الضعفاء، وتسول عشوائي ناتج عن الهجرة من القرى والمدن الصغيرة”.
ودعا الفاعل المدني نفسه الدولة إلى دعم الجمعيات التي تُشرف على مراكز الإيواء ودور الرعاية، موردا أن “الحماية الاجتماعية يجب أن تكون في صلب الإستراتيجية الوطنية لمكافحة التسول، ولاسيما في صفوف الأطفال والمشردين”.
وشدّد أيوب على أن “المقاربة الأمنية أو الزجرية يجب أن تأتي في مرتبة ثالثة، بعد تمكين الجمعيات من أداء أدوارها، وقيام الدولة بمسؤولياتها في خلق فرص بديلة تحفظ كرامة المواطن”، وختم تصريحه بالقول: “تنظيم كأس العالم ليس هدفًا في حد ذاته، بل وسيلة لتعزيز الإقلاع الاقتصادي والاجتماعي وتحسين البنيات التحتية للبلاد، وهي فرصة لا يجب أن نضيعها”.
0 تعليق