للمتابعة اضغط هنا

الطيب .. عالم باللغة خبير

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف
تابعنا علي تليجرام

لم يسبق لي أن حظيت بلقاء مباشر مع الأستاذ الدكتور عبد الله الطيب، لكني كنت ألتقي به باستمرار عن طريق مؤلفاته، وخاصة مؤلَّفه التحفة “المرشدُ إلى فهم أشعار العرب وصناعتها”. فتتلمذتُ عليه وتعلمتُ منه، فكان حقا مرشدا ومعلما، وإن بعدتِ المسافة. فقد كان مؤلفه واضح المنهاج، مرشدا لمن وجد في الشعر العربي ضالته بحثا وتنقيبا، تفسيرا وتوضيحا، بلغة راقية سلسلة في الأداء، مؤدية لما كان يطمح إليه المؤلِّف من الفهم والإفهام.

فكان المؤلَّف لبنة أساس في ركْبِ من تَهَمَّمَ بالشعر العربي قَديما وحديثا.

كان هذا الكتاب/المفخرة، لطلاب الدراسات الأدبية، مصدرا هاما من مصادر التكوين السليم والتوجيه السديد، متى اتبع الباحثُ خطواتِه بهدوء وروية، ومعرفةٍ ودراية، سواء تعلق الأمر بمنهجيته أو بمضامينه أو اختياراته.

قراءةُ هذا الكتاب تُبحرُ بالقارئ إلى عالم الصناعة الشعرية عند العرب، فهو عمدةُ الدارسين والباحثين، ومرشدٌ لاستيعاب ما كان يرمي إليه الشعراء العرب وهم يبنون صرحَ صناعة شعرية ستصبح فيما بعد القانونَ الأسمى لكل من يرغب في ركوب لُجَّة الشعر بلغة أنيقة ودافئة، وبمضامين مستوعبة لواقع حياة صاحِبِها في تنقلاته وعلاقاته. وبذلك ضمن هذا الشعر العربي الخلودَ على مر العصور والأزمان، محتفظا برُوَائه وجماله وسحره وبهائه.

للأستاذ عبد الله الطيب أفضال على طلاب اللغة العربية في كل صقع قريب أو بعيد. فكتابه الصادر سنة 1955، في جزئه الأول، كان بمثابة البوابة التي فتحها للدخول إلى عالم الصناعة الشعرية بمعرفة وعلم، وسيلتُهُ الشرح والتحليل واستنطاق النصوص الشعرية أوزانا عروضية وقوافيَ وأرواء، مع ما يستلزم من توضيحات تُغري بالمتابعة والتناول.

وتوالت الأجزاء في الجرس اللفظي فصاحة وبيانا وبديعا. ويمكن القول، من خلال دراسة هذا الكتاب، إن الأستاذَ البحاثة يتميز بخصال يمكن إجمالها في الآتي:

لــغـوي أديـب: فهو عالمٌ باللغة خبير، محبٌ لها أثـيـر، قارئٌ نهم للشعر العربي القديم، ملمٌّ بجزئياته وموضوعاته. أينما أبحر أتاك بالخبر اليقين، وأينما ولّى فجُعبتُه ملأى بالجوهر النفيس من الأشعار، يُجري عليها تطبيقاته وتوضيحاته، ويغري القارئ بما استلـذه من فصيح عبارة ووضوح دلالة، فلا يملك غيـرَ الاعتراف له بالأستاذية المستحقة، وبالعلم الوافر الغزير أينما نـقّب في هذا الكتاب وأينما بحث بين سطوره وفقراته. يحسن الاطلاع والاستيعاب.

وقد أكد هذا الكلامَ عميدُ الأدب العربي الدكتور طه حسين في تقديمه للجزء الأول من الكتاب، فقال: “هذا كتاب ممتع إلى أبعد غايات الإمتاع، لا أعرف أن مثله أتيح لنا في هذا العصر الحديث، ولست أقول هذا مكثرا أو مغاليا، أو مؤثرا إرضاء صاحبه، وإنما أقوله عن ثقة وبيِّنة. ويكفي أني لم أكن أعرف الأستاذَ المؤلِّفَ قبل أن يزورني ذات يوم، ويتحدث إليَّ عن كتابه. لقد كان الرضى عنه والإعجابُ به يفرضان عليَّ فرضا أن أقدّم إلى القراء الكتابَ وصاحبَه الأستاذ عبد الله الطيب، وهو شاب من أهل السودان.”

ويضيف قائلا: “وأنا سعيد بتقديم كتابه إلى القراء، لأني أقدم إليهم طُرفةً أدبيةً نادرة، حقا، لن ينقضي الإعجابُ بها والرضى عنها لمجرد الفراغ من قراءتها، ولكنها ستترك في نفوس الذين سيقرؤونها آثارا باقية، وستدفع كثيرا منهم إلى الدرس، والاستقصاء، والمراجعة، والمخاصمة. وخيرُ الآثار الأدبية عندي وعند كثير من الناس ما أثار القلق وأغرى بالاستزادة من العلم، ودفـع إلى المناقشة وحسن الاختيار”.

هذه شهادة عالم وأديب وناقد لا يُشق له غبار في مؤلَّف الأستاذ عبد الله الطيب. كتاب يذكي في القارئ جـذوةَ البحث والدرس، ويدفعه إلى التمسك بالمعنى الواضح والعبارة الجزلة والأسلوب الرصين. وكما يذكر بعض طلابه، “فدروسه لا تختلف عن كتابته، جودةً وعمقا وغاية ومتعة، يغلف ذلك بالطرفة والملحة حتى لا يَـشُـقَّ على الطالب بما لم يألفه من المحاضرات إن كان في سنوات الإجازة الأولى، وحتى يكسِّر الحواجز بينه وبين طلابه في مرحلة الدراسات العليا”.

التواضع: وهو خصلة كـرَّم الله بها العلماء الأصفياء. ونلمس ذلك في جميل رده على ما كتبه الدكتور طه حسين في تقديم الجزء الأول من المرشد. يقول الدكتور عبد الله الطيب في مقدمة الجزء الثاني من مؤلفه: “لما قرأت تلك المقدمةَ البارعة الرائعة، الصادقة النبيلة، التي حلّى بها علامةُ العرب وعميد الأدب الدكتور طه حسين صدر كتابي الأول، لم أملك نفسي أن نظمتُ هذه الأبيات وبعثت بها إليه حفظه الله وتولاّه:

عصـتْـني الطـيِّـعات من القــوافي
فمـا أدري وحــقك مـا أقــول
وأعيـاني البـيـانُ، وكيف يـُجْزَى
جـميـلُك أيـها الشيخُ الجــليـــل
عرفتُـك في صــحائفَ مشـرقـاتٍ
كـان سـوادَها الطـرفُ الكحيـل
بلَوْتُـك أرْيَـحِـيَّ القـلب شـهـمـــا
لــه الغـاياتُ والســبق الأصـيل

الاعتراف بالفضل: يقال: من لم يشكر العبد لم يشكر الله، والأستاذ عبد الله الطيب ممن يعترفون بأفضال غيرهم. فهو لم يكتف بتقديم آيات الشكر والثناء للدكتور طه حسين، بل يثني عليه ثانية عندما قال: “يرجع الفضل الأكبر في إبراز هذا الكتاب من حجاب الخمول إلى جماهير القراء الكرام، إلى الأستاذ العلامة عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين، فقد اختلس من زمنه القـيِّم ساعاتٍ لقراءة أصوله ثم وعد بالتقديم ثم سعى سعيا حثيثا في نشره، كل ذلك فعله ابتغاءَ وجه الله، واعترافا بحق الأدب والأدباء.

وقد وردتُ مصر غريبا، وصدرتُ منها بعد لقائه وأنا أشعر بالعزة والكرامة”. كما نراه يثني على كل من أعانه وساعده وفي مقدمتهم والــدُه، برورا به واعترافا بفضله. يقول في الإهداء: “إلى جميع من أعانوا على خلق هذا الكتاب، بما تـولّوه من إرشادي وتعليمي ونقدي، أولهم أبي”. ولم يغفل شكر أستاذه العلامة ألفريد جيوم، عميد الدراسات الإسلامية بمعهد اللغات الشرقية بلندن، فقد كان لا يني يشجعني برسائله على بعد ما بيننا من المسافة.

ومن باب الوفاء لمن خدموه في مرحلة التحضير والإنجاز، فقد قدم الشكر لأمين مكتبة معهد التربية إذ يسّر له المراجع، وأعانه بالنقد ولفت ذهنه إلى أشياء كثيرة كانت غائبة عنه. وتلكم صفات خلقية نبيلة حباه الله بها.

عبد الله الطيب قامة سامقة وعلامة مضيئة في تاريخ الأدب العربي، له قدم راسخة في الثقافة العربية الإسلامية، مفكرا، وناقدا، أديبا ومترجما من اللغة الإنجليزية إلى اللغة العربية ما نال إعجابه من الكتابات الشعرية أو النثرية، ومفسرا لبعض الأجزاء القرآنية.

عبد الله الطيب تعددت نوافذ عطائه وتنوعت، فهو شاعر، ومن دواوينه الشعرية: “أغاني الأصيل”، “أصداء النيل”، “اللواء الظافر”. وهو كاتب مسرحي، ومن مسرحياته: “قيام الساعة”، “الغرام المكنون”. ومن مؤلفاته الأدبية: “الطبيعة عند المتنبي”، “القصيدة المادحة”، “من حقيبة الذكريات”، “تسع كلمات من فاس”، “الحماسة الصغرى”، “تاريخ النثر الحديث في السودان” وغيرها. شغله هاجسُ الاهتمام باللغة العربية فـقدّم عنها محاضراتٍ عديدةً، منها: “خواطر عن اللغة العربية وتعليمها”، “المجامع اللغوية وأثرها في حفظ اللغة العربية”، “التعريب والترجمة”، “لابد من الإعراب للتعريب”، وغيرها.

وهو قبل وبعد الأستاذ المبرِّز في اللغة العربية وآدابها، الأستاذ والعميد ورئيس جامعة الخرطوم. كما تنقَّل في عدة دول إفريقية أستاذا زائرا ومحاضرا متميزا. وكان له في جامعة سيدي محمد بن عبد الله بظهر المهراز بفاس شُفوف وحضور وتألـق. وهو المحاضر الذي لفت الانتباه في الدروس الحسنية الرمضانية التي ألقاها بحضرة الملك الحسن الثاني رحمه الله. وهو عضو المجمع اللغوي بالقاهرة، ورئيس المجمع اللغوي بالخرطوم، ورئيس اتحاد الأدباء السودانيين.

نال الأستاذ عبد الله الطيب جوائز تقديرية عديدة ودكتوراه فخرية من عدة جامعات، وحصل على جائزة الملك فيصل العالمية سنة 2000 مناصفة مع الدكتور عز الدين إسماعيل. كما قلده الدكتور طه حسين وسام النبوغ بمناسبة صدور الأجزاء الأولى من كتابه “المرشد”.

وفي مدينة فاس، مدينة النور والعلم، كان بيت الدكتور عبد الله الطيب ملتقى للأدباء المغاربة ولتلامذته وأحبابه، وكان معْلَما للعطاء وقمة للمفاخر. كان سفيرا لوطنه علما وخلقا، موسوعة علمية تُشرق بأنوارها على الباحثين لتضيء لهم معالم الطريق، هكذا تحدث عنه أحد الطلبة السودانيين المقيمين بالمغرب.

وأثناء إقامته بالمغرب، أنجز معه الأستاذ بوشتى حاضي حوارا لجريدة العلم نُشر ضمن “العلم السياسي”، يذكر فيه قصة حبه للمغرب ولعلمائه منذ أول لقاء. يقول: “زرتُ المغرب أول مرة سنة 1961، وأُعجبتُ بزيارتي له وتمكَّنتُ من رؤية الكثير من مدنه، وبينما كنت أسير في إحدى طرق الرباط، وقفتْ بجانبي سيارة وأشار لي صاحبها بالركوب، وأخذني إلى بيته، حيث شربت الشاي، وأنشدني أبياتا من الرجز في الشاي. وكان معي كتابي “المرشد” فأهديته له، وأهداني كتابَه الموجود الآن في جامعة الخرطوم، هديةً مني، ولن أنسى هذه المصادفة، لأن الكتاب هو “المعسول”، ولأن من أهداني إياه كان من سادة العرب وعلمائهم وهو سيدي المختار السوسي، رحمه الله. ولم تكن بيننا معرفةٌ سابقة، وإنما كنت عابرا سبيل، فالأثرُ الذي تركه لقائي به أثرٌ باق ما بقيت”.

وختاما، سمحت الظروف في نونبر 1989 أن أحضر مهرجان المربد ببغداد. هناك تعرفت إلى الأستاذ عبد الله الطيب وحرمه البشوش، أرملته اليوم، فسعدتُ بذلك، واكتشفتُ شخصيةً أخرى، شخصيةَ المجالس الذي تحلو مجالسته وتفيد، روحٌ مرحة، طُرفٌ نادرة، ونكتٌ مسلية، يفيض علما ونبلا، وخفةً وظرفا، وتواضعا جما مع الجميع. كان يذكر أيام فاس بحب وشوق، ويذكر أبناء المغرب بتقدير وإعجاب، ويذكر احتفاء المغاربة به أينما حل وارتحل، ويؤكد اعتزازَه بتلك السنوات العديدة التي قضاها أستاذا ومؤطرا لطلاب الدراسات العليا بقوله: “كانت سنوات خصبةً في حياتي، انتعشتِ الذاكرةُ وأحيتْ رحما علميا مع أدباء وعلماء المغرب، واهتبلَتْ تلكمُ الذاكرةُ الفرصةََ لتسجل كتابات منها: تسع كلمات من فاس، حقيبة الذكريات، وغيرها”.

لن أنسى مهرجان المربد، ذلك المهرجان البغدادي الذي كان يجمع شمل الباحثين والأدباء والشعراء والمفكرين من أقطار العالم للتعارف والمناقشة والحوار. فقد أسعفني بلقاء مباشر مع أستاذ كبير وعلامة أريب، وبالحديث إليه في ما يتعلق بالأدب العربي في المغرب وبغير ذلك من الموضوعات. وكانت المناسبةُ فرصة طيبة أنني عرفت الأستاذ الدكتور عبد الله الطيب عن قرب ولو لأيام معدودة، فحُقَّ لي وغيري أن نقول: إنه العالمُ الذي نفخر به في عالمنا العربي والإسلامي، والمواطنُ المتواضع الذي يغري الجميعَ بالالتفاف حوله. رحمه الله.

الدكتور عبد الله الطيب من علماء السودان وأدبائها، من مواليد سنة 1921 بالخرطوم، تنقل في مدارس الخرطوم تلميذا وطالبا بكلية آداب الخرطوم والمدارس العليا في التربية ومعهد الدراسات الشرقية والإفريقية بلندن، ونال درجة الدكتوراه من جامعة لندن سنة 1950، ثم عاد إلى الخرطوم ليتولى عمادة كلية آداب الخرطوم، ثم رئاسة جامعتها وغيرها من المناصب العلمية.

بلغت مؤلفاته أزيد من أربعة عشر مؤلفا وسبعة دواوين شعرية وخمس مسرحيات شعرية وتفاسير للعديد من الأجزاء القرآنية.

كانت وفاته يوم 19 يـونيو 2003 بمسقط رأسه في العاصمة الخرطوم إثر إصابته بجلطة دماغية.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق