للمتابعة اضغط هنا

أفلام الحرب والمصالحة .. السينما المؤثرة تقدم دروسا في الإنسانية والسلام

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف
تابعنا علي تليجرام

يستعرض الإعلامي المغربي عبد العزيز كوكاس الدور الحاسم الذي تلعبه السينما في تشكيل الذاكرة الجماعية وإعادة كتابة التاريخ.

ويبرز كوكاس في مقال توصلت به هسبريس بعنوان “قوة تأثير السينما في بناء المصالحة والسلام” كيف أن السينما ليست مجرد وسيلة ترفيهية، بل قوة تأثيرية تمتد إلى السياسة والمجتمع، إذ يمكنها أن تعيد صياغة الوقائع وتوجيه الرأي العام.

من خلال استعراض أمثلة لأفلام تناولت قضايا الحروب والمآسي الإنسانية، يوضح الإعلامي المغربي كيف أن السينما تساهم في تسليط الضوء على العنف والصراعات ليس فقط لفضحها، بل أيضًا للدعوة إلى المصالحة والسلام.

كما يشير كوكاس إلى أن السينما تمتلك قدرة فريدة على تعزيز قيم التسامح والعدالة والاعتراف بالآخر، مما يجعلها أداة فعالة في بناء المصالحة الوطنية وتضميد الجراح المجتمعية.

وعبر تحفيز النقاش وتوثيق الذاكرة الجماعية، تساهم السينما في فتح آفاق جديدة للتفاهم والتعايش السلمي، مساهِمة في خلق عالم أكثر عدلاً وإنسانية.

نص المقال:

بحكم ذيوعها وسهولة انتشارها واتساع جمهورها، ظلت السينما أكثر الفنون هيمنة وأبعدها تأثيراً، لذلك وقعت دوماً على الحدود الحساسة مع السياسة، ووجد السينمائيون والسينمائيات أنفسهم يسيرون على أسلاك كهربائية عالية الضغط. لذا، شكلت السينما أداة للتوظيف الإيديولوجي لدى المؤسسات الرسمية كما لدى المؤسسات المضادة. كان لينين يردد أن “السينما بالنسبة لنا، من بين جميع الفنون، هي الأهم”، لقد وعى مكمن خطورتها في التوجيه والتأثير بسبب قوتها في جذب المشاهدين، فالسينما لا تحمل قصة إنسانية فقط، بل تساهم في إعادة كتابة التاريخ وتفسيره بما يخدم القضايا السياسية في هذا الاتجاه أو ذاك، إنها سلطة الصورة.

وحين سيطر النازيون على ألمانيا، كانوا أخطر من وجّه السينما كأداة رئيسية للتأثير في المشاهدين وإعادة تشكيل تصوراتهم وتنميطها وقولبتها وفق عقيدة الفوهرر. كانت لديهم ثقافة متطورة بشكل خاص بخطورة الصورة، وكان فريتز هيبلر مدير الخدمة السينمائية في وزارة الدعاية لغوبلز، الذي كان يشهر مسدسه كلما سمع كلمة ثقافة، هو نفسه مخرج أفلام، وأشرف على إنتاج عدد كبير من أفلام الدعاية تضمنت نقل نموذج قومي ورؤى إيديولوجية ومعايير اجتماعية تخدم النازية.

السينما هي تعبير عن وجهة نظر، عن رؤية فكرية وجمالية للعالم. وتعتبر قضايا الحرية والديمقراطية والعدالة والسلم والمساواة والتسامح، قضايا حيوية شكلت قصص أفلام عديدة ومواضيعها، لذلك كانت السينما على احتكاك تام مع السلطة. وخاض السينمائيون من مختلف دول العالم تحديات خطيرة في ظل أنظمة استبدادية وديكتاتورية. ووجدت في العديد من الدول حتى وقت قريب، لجان للرقابة تراجع الأفلام قبل بثها على الجمهور، وابتكر العديد من المبدعين السينمائيين حيلاً فنية واستعارات لإخفاء نقدهم الاجتماعي أو السياسي عن أعين الرقيب.

برغم العلاقة الوطيدة بين السياسة والسينما، فإن السينما فن يعرض تجارب إنسانية باذخة. هي إبداع وليست مجرد حامل للدعاية السياسية سواء كانت في خدمة السلطة أو المعارضة. قوة السينما تكمن في إعادة تشكيل وعينا بالعالم برؤية جمالية. هي لفت انتباهنا للقيم المشتركة للبشرية من حب، أمن، سلام، حرية، عدالة، ديمقراطية… وبكلمة حقنا المشترك في العيش بكرامة وبجمالية. وكما يقول بطل فيلم “حلقة الشعراء المفقودين أو جماعة الشعراء الموتى” Dead Poets Society: “صعدت إلى مائدتي لأذكّر نفسي أنه عليك دومًا النظر إلى الأمور بطريقة مختلفة”.. هكذا يجب أن تكون وظيفة السينما، أن تسمو لترينا العالم بشكل مختلف، أكثر عمقًا وأقوى جمالية، وعدم التحول إلى أداة لخدمة السياسي، الذي طموحه حتى ولو كان معارضاً هو الوصول إلى السلطة. ولا أن تصبح ذيلية لتبجيل وتمجيد وضع قائم. ليس دور السينما تسويد الأبيض ولا تبييض الأسود، لكن السينمائي ليس سياسياً حتى ولو كان منتمياً لحزب معارض أو حاكم. ولن ينتج فيلماً ذا قيمة جمالية حقيقية لمجرد تطرقه لقضايا سياسية خطيرة وبرؤية ثورية. ولكن السينما مؤثرة في السياسة في بعدها النبيل باعتبارها فن إدارة الشأن العام وفق الممكن وفي أفق تحسين شرط الوجود البشري.

إن أجمل الأفلام التي فضحت الإمبريالية وفساد السلطة وفظاعات المخابرات المركزية الأمريكية وجرائم الحروب الإمبريالية أنتجت في هوليود. فحتى في عرض الفظاعات يوجد ثمة بعد جمالي، هو ما تبرزه السينما التي ترقّي حساسيتنا وتجعلنا نتحرك بأمل نحو أفق تغيير واقعنا نحو الأحسن والأجمل.

توجد السينما في قلب التاريخ والذاكرة. يقول ميشيل فوكو: “بمجرد أن تبدأ في رؤية صورها كل مساء، تصبح الحرب مقبولة تماماً، أنتم ستفعلون هذا حقاً، أنا أحب أن أرى شيئاً آخر، وعندما يصبح مملاً تتحمله”. الفيلم يعيد تنشيط هذا الوجود تاريخياً كحقيقة مهمة. ويؤكد فوكو على دور الأفلام السينمائية في إعادة كتابة التاريخ، وإبقاء الذاكرة طازجة، خاصة الذاكرة الشعبية، باعتبارها عاملاً مهماً للغاية في النضال الذي اعتبره نوعاً من التقدم الواعي للتاريخ. مما يسمح بتطور واتساع مساحات البشرية للالتقاء والتفاعل بشكل دينامي ومتجانس.

إن استخدام الحكايات العنيفة لصنع أو فرض السلام هو موضوع سينمائي مألوف. فأعظم أفلام الحروب هي تلك المناهضة والمعادية لها. وقد قدم صانعو الأفلام روايات أكثر أهمية عن “الحرب لإنهاء كل الحروب”. من فيلم “تعالى وانظر” Come and See، الفيلم الروسي الذي صوّر مشاهد فظيعة خلال الحرب العالمية الثانية، والفيلم الرائع “لا شيء يحدث على الجبهة الغربية” All Is Quiet on the Western Front المحمل برمزيات عالية تشجب القتل المجاني وتصف ويلات الحرب وفظاعاتها على شباب اعتقدوا من فرط حماستهم أن الحرب نزهة رومانسية للإشادة بالوطن. وفيلم “الكتيبة أو الفصيلة” Platoon لأوليفر ستون الذي صور فظائع حرب فيتنام وويلاتها على جنود ضائعين في قلب غابة كثيفة…

يعتبر الصراع وحل النزاعات في قلب العديد من الأعمال الدرامية السينمائية. وهنا الدور الأساسي الذي تلعبه السينما في فحص روايات الماضي من منظور الحقوق الثقافية. لقد تتبعنا أفلامًا وثائقية تتحدث عن المذابح أو عن سنوات القمع والرصاص. من الصراع إلى المصالحة، توجد السينما بشكل حيوي من أجل حفظ الذاكرة والاعتراف بالجرائم والمصالحة الوطنية والانتقال نحو الديمقراطية لتحصين الأجيال القادمة، كي لا يتكرر ما حدث من فظاعات. يقول جاك دريدا في كتابه “شبح ماركس”: “لا يبدو أن العدالة ممكنة أو يمكن التفكير فيها دون مبدأ بعض المسؤولية، باستثناء كل حاضر، وداخل ما يفكك الحاضر الحي، أمام أشباح أولئك الذين لم يولدوا بعد أو الذين ماتوا بالفعل، سواء كانوا ضحايا حرب أو سياسة أو نوع آخر من العنف”.

تساهم الدراما السينمائية في إعادة كتابة التاريخ ليس من قبل المنتصرين ولكن من طرف المنهزمين. وإحياء ذكرى جراح الماضي لا يقصد منه الانتقام وزرع الأحقاد والكراهية بل المصالحة. فالصراعات العنيفة التي تعكسها السينما مدفوعة في النهاية بالرغبة في السلام الدائم. إن تحدث الناس عن ذكرياتهم الجماعية المؤلمة، وتوثيق ما رأوه، وجمع قصص أولئك الذين تغيرت حياتهم إلى الأبد بسبب الحرب والعنف السياسي أو تناول صانعي الأفلام في أعقاب الحروب والمذابح والإبادة الجماعية والفظائع الإرهابية، للمعاناة القاسية للضحايا يقوم بعملية التطهير Catharsis التي ميز بها أرسطو التراجيديا. فالكشف عن الحقيقة وتحقيق المصالحة يساهم في شفاء الذكريات الجريحة وتضميدها لتعيش الأجيال المقبلة في سلام دائم.

تسهل السينما عملية استعادة ماضي الذاكرة، وتعمل على ترسيخ التسامح وثقافة العفو والصفح والاعتراف والاعتذار للضحايا من أجل صنع السلام. وتعاضد عملية الانتقال من الصراع إلى المصالحة الوطنية. عبر أرشفة الحقيقة والمصالحة من خلال عدم فرض صانعي الأفلام أي رقابة على الحقائق الصادمة والمشاعر التي تكمن وراء العديد من صور العنف السياسي كشكل من الكفاح الإنساني المشترك من أجل السلام. لا خيار أمام المتضررين من النزاعات والحروب سوى التذكر، أثناء استكشاف الطرق التي يتذكرون بها من خلال سرد القصص والفن والرموز والطقوس إلى جمهور أوسع. إنها دعوة للتذكر، لتقاسم ذاكرة الوجع، للشعور… للتفكير… للمناقشة. تجعلنا نغفر ونسامح ونصفح، لكن لا ننسى. يجمع الفيلم وجهات نظر ورواة متعددة، مما يجعل مشاهديه شهوداً على المعاناة والبقاء، وآثار الحرب والأمل في السلام. يستخدم قوة الذاكرة لاختراق الصمت. وبذلك تساهم السينما في هدم حواجز التعايش والحوار والتفاهم وجعلها تتلاشى مع انفتاح الفضاء الجسدي والعقلي والعاطفي ورفع منسوب الأمل. وتغدو المصالحة ظاهرة ثقافية وسياسية للمفاهيم الخلافية للحقيقة والمصالحة من خلال عمل صانعي الأفلام والفنانين. فاستكشاف العواقب الهائلة المأساوية للنزاع العنيف، حيث يتذكر الناس ويشهدون على الخسارة والنزوح التي حددت حياتهم من نواح كثيرة، هو ما يساهم في بناء جسور التواصل في الانتقالات الديمقراطية بأقل الخسارات الممكنة وضمان عدم تكرار ما حدث من مآسي.

إن دور السينما هو أنها تطلعنا على الخصوصيات الثقافية والاجتماعية لمجتمع ما، ليس كعنصر هوية منغلقة، بل كمساهمة في البناء الحضاري وتعزيز الثقة والاحترام، ومن الرغبة في التعاون لخير الإنسانية. إشاعة ثقافة التعايش السلمي وتعزيز الهوية الوطنية، والاحتكام إلى القانون في حل الخلافات والنزاعات الطائفية، وأيضاً أهمية تحقيق العدالة الاجتماعية بين أبناء الوطن، والسعي إلى عدم التمييز بينهم في مختلف الوظائف.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق