صموئيل العشاي يكتب: عشر سيناريوهات لمستقبل سوريا: بين التدخلات الإقليمية والتسويات الدولية

البورصة 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

تقف سوريا اليوم على مفترق طرق حاسم، بعد أكثر من عقد من الصراع الذي مزّق البلاد وأعاد تشكيل ملامحها السياسية والعسكرية. ومع التطورات الأخيرة التي تُظهر تدخلات إقليمية واضحة وتحالفات متغيرة، بات مستقبل سوريا مرهونًا بمصالح القوى الفاعلة على الساحة، سواء من الداخل أو الخارج.

تشهد المنطقة صراعًا محتدمًا بين الأطراف المتنافسة على النفوذ، بدءًا من تركيا وإيران، مرورًا بالدول العربية، وصولًا إلى الولايات المتحدة وروسيا، مما يضع البلاد أمام عدة سيناريوهات محتملة.

في هذا التقرير التحليلي، نستعرض عشرة سيناريوهات محتملة لمستقبل سوريا، والتي تتراوح بين تسويات دولية، وصراعات طويلة الأمد، وحتى إعادة رسم خريطة النفوذ الإقليمي. هذه السيناريوهات، وإن بدت متباينة، تُظهر جميعها حجم التعقيد الذي يواجه الملف السوري وتداعياته على المنطقة بأكملها.

سيناريوهات مستقبل سوريا في ضوء التطورات الحالية:

اولا : سيناريو الهيمنة التركية الكاملة وتحويل سوريا إلى منطقة نفوذ تركي طويل الأمد

في هذا السيناريو، تحقق تركيا أهدافها الاستراتيجية بدعم الحكومة السورية الجديدة ذات الطابع الإخواني، وتتمدد عسكريًا داخل الأراضي السورية. تتحول سوريا إلى منطقة نفوذ تركية شاملة، حيث تُسلم القواعد العسكرية والمطارات للجيش التركي بعقد طويل الأمد يصل إلى 99 عامًا، تحت غطاء رسمي من الحكومة الموالية لأنقرة. تفرض تركيا سيطرتها الاقتصادية عبر مشاريع إعادة الإعمار، وتربط المناطق السورية الشمالية بالاقتصاد التركي بشكل كامل، مما يُحوّلها إلى سوق تركية تابعة. سياسيًا، تُعيد تركيا إنتاج نسخة مصغرة من “الدولة العثمانية” حيث تكون سوريا بمثابة “الولاية 82”، وتُطبق نموذجها السياسي المستند إلى الإسلام السياسي.

ينتج عن هذا السيناريو تراجع التأثير السوري الداخلي في اتخاذ القرار الوطني، فيما يتم تهميش الأقليات الدينية والعرقية، مثل العلويين والمسيحيين والأكراد، لصالح القوى المدعومة تركيًا. تُنشأ إدارات محلية سورية تابعة لأنقرة، فيما تتلاشى فكرة السيادة الوطنية السورية. هذا الوضع يُشعل احتجاجات داخلية بين السوريين الرافضين للتبعية التركية، كما يؤدي إلى مواجهات محتملة بين تركيا والفصائل الكردية التي ترى في هذا السيناريو خطرًا وجوديًا على مشروعها القومي. إقليميًا، يُزيد هذا التدخل من التوتر بين تركيا والدول العربية، خاصة الأردن والعراق، التي تعتبر التوسع التركي تهديدًا مباشرًا لاستقرارها.

ثانيا : سيناريو المقاومة الداخلية وانهيار المشروع التركي في سوريا

في هذا السيناريو، تتفاقم المعارضة الشعبية السورية ضد التدخل التركي مع الوقت، إذ تُثير السياسات التركية غضب السوريين بمختلف أطيافهم. الشعب الذي سبق وأن عانى من التدخلات الأجنبية، يرى في الاحتلال التركي إعادة إنتاج للمأساة العثمانية القديمة. تبدأ المقاومة أولاً عبر احتجاجات شعبية سلمية تندد بتبعية الحكومة الجديدة لتركيا، ثم تتطور لاحقًا إلى تنظيمات مسلحة محلية، تتشكل من بقايا الجيش السوري والمجموعات الوطنية التي ترفض التدخل الأجنبي.

مع تزايد التوتر، تجد تركيا نفسها غارقة في مستنقع سوري مشابه لما تعرضت له الولايات المتحدة في العراق وأفغانستان. تُصبح المناطق التي يسيطر عليها الجيش التركي مسرحًا لهجمات المقاومة، مما يُكبد القوات التركية خسائر بشرية واقتصادية ضخمة. داخليًا في تركيا، يبدأ الرأي العام التركي في التشكيك بجدوى التدخل في سوريا، خصوصًا مع تصاعد التوترات الاقتصادية في الداخل التركي. إقليميًا، تجد تركيا نفسها في مواجهة مباشرة مع القوى الإقليمية والدولية التي ترفض التمدد التركي، مثل روسيا وإيران. مع الوقت، تتراجع تركيا وتُجبر على الانسحاب من سوريا تحت ضغط المقاومة والخسائر المتراكمة، تاركةً الحكومة السورية الجديدة في مأزق سياسي وشعبي، يُعيد البلاد إلى حالة من الفوضى.

ثالثا : سيناريو التقسيم الفعلي لسوريا إلى مناطق نفوذ متعددة

في هذا السيناريو، تتسارع التحولات الجغرافية والسياسية في سوريا لتُكرس حالة التقسيم إلى مناطق نفوذ دائمة. تُسيطر تركيا على شمال سوريا وغربها بدعم من الحكومة السورية الجديدة، فيما تحتفظ روسيا بمناطق الساحل والوسط السوري، وتبقى مناطق شرقي الفرات خاضعة لنفوذ القوات الكردية المدعومة أميركيًا. تُقسم البلاد فعليًا إلى ثلاث مناطق رئيسية:

المنطقة التركية: تُدار كمنطقة نفوذ سياسي وعسكري واقتصادي لأنقرة، تحت مبررات محاربة الإرهاب وتأمين الحدود.
المنطقة الروسية: تظل بمثابة قاعدة إستراتيجية لروسيا، تُحقق مصالحها العسكرية والاقتصادية في سوريا.
المنطقة الكردية: تُستغل من قبل الولايات المتحدة كحاجز استراتيجي ضد كل من تركيا وإيران.

هذا الوضع يُعيد سوريا إلى حالة “الدول الفاشلة” التي لا تُسيطر فيها حكومة مركزية على كامل أراضي البلاد. تتعطل إعادة الإعمار بسبب تشتت القوى السياسية، ويزداد التوتر بين المناطق الثلاث نتيجة تداخل المصالح الإقليمية والدولية. يتسبب هذا السيناريو في إضعاف الدولة السورية بشكل كامل، ويجعلها عرضة للتدخلات المستمرة من قبل القوى الكبرى، فيما يعاني المواطن السوري من استمرار التشرذم وتراجع الخدمات الأساسية.

رابعا: سيناريو عودة النفوذ الروسي وإزاحة تركيا من المشهد

في هذا السيناريو، تتدخل روسيا بشكل مباشر لوقف التمدد التركي في سوريا، نظرًا لمصالحها الاستراتيجية في المنطقة. تُدرك موسكو أن التحركات التركية تهدد استقرار نفوذها في الساحل السوري وقواعدها العسكرية، فتقوم بتنسيق عمليات عسكرية مع الجيش السوري لإخراج القوات التركية من الشمال السوري. تعمل روسيا على توحيد الفصائل المعارضة المنضوية تحت النفوذ التركي، وتُقدم ضمانات بتحقيق مصالحها السياسية في سوريا، مما يُسهم في تفكيك التحالفات التركية.

تتطور الأحداث لتشهد مواجهات محدودة بين القوات الروسية والتركية على الأراضي السورية، مما يزيد من الضغط الدولي على أنقرة. تجد تركيا نفسها معزولة سياسيًا بسبب اعتراض الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة على مغامراتها العسكرية، فيما تتعرض لانتكاسات اقتصادية تؤدي إلى تراجع دعمها للمشروع السوري. مع مرور الوقت، تُفرض تسوية سياسية جديدة تُعيد موسكو إلى موقع القيادة في سوريا، وتُنهى النفوذ التركي تدريجيًا، مما يُعزز موقف النظام السوري ويُعيد البلاد إلى سيطرة مركزية تحت الحماية الروسية.

خامساً: سيناريو توازن النفوذ الإقليمي بين تركيا وإيران وروسيا

في هذا السيناريو، تُدرك القوى الكبرى المؤثرة في سوريا – تركيا، روسيا، وإيران – استحالة فرض سيطرة مطلقة لأي طرف بمفرده على البلاد. يجري توافق ضمني بين هذه الأطراف لترسيم مناطق النفوذ وتوزيع المصالح. تُبقي تركيا على شمال سوريا كمجال نفوذ لها لضمان أمنها القومي ومحاربة الأكراد، فيما تواصل روسيا السيطرة على الساحل السوري والوسط لضمان نفوذها العسكري والاقتصادي. أما إيران، فتُحافظ على مناطق وجودها التقليدي في دمشق والجنوب السوري، لتعزيز دورها الجيوسياسي في مواجهة إسرائيل.

تُدار سوريا ضمن نظام فيدرالي غير مُعلن، تُقسم فيه السلطة بين الحكومة المركزية والفصائل المحلية المدعومة من الدول الإقليمية. هذا التوازن الهش يُجنّب البلاد انهيارًا شاملًا، لكنه يُطيل من أمد الأزمات الداخلية بسبب تعارض الأجندات بين القوى الخارجية. سياسيًا، تتحول سوريا إلى ساحة دائمة لتصفية الحسابات بين تركيا وإيران وروسيا، مما يُبقي مستقبل البلاد رهينًا لهذه القوى.

سادسا : سيناريو انتفاضة شعبية شاملة تُطيح بالحكومة الجديدة

في هذا السيناريو، تتسبب سياسات الحكومة السورية الجديدة، المرتبطة بتركيا، في إشعال غضب شعبي عارم. الشعب السوري، الذي أنهكته الحرب وتدخلات القوى الخارجية، يرفض تسليم البلاد لتركيا والعودة إلى زمن الهيمنة العثمانية. تبدأ الاحتجاجات بشكل محلي في مدن كبرى مثل حلب ودمشق، ثم تتوسع لتشمل مختلف المناطق، بما فيها شمال سوريا الخاضع للسيطرة التركية.

تنضم مختلف الفئات السياسية والقومية والدينية إلى هذه الانتفاضة، ما يُشعل حالة من الفوضى تُفقد الحكومة سيطرتها تدريجيًا. تُستغل هذه الحالة من قبل فصائل مُعارضة أخرى لإسقاط الحكومة المدعومة تركيًا، وتبدأ جولة جديدة من الصراع السياسي والعسكري في البلاد، بحثًا عن قيادة وطنية تُعيد بناء سوريا على أسس جديدة.

سابعا: سيناريو التدخل العربي وإعادة سوريا إلى الحاضنة العربية

في هذا السيناريو، تُدرك الدول العربية، وعلى رأسها مصر والسعودية والإمارات، خطورة المشروع التركي في سوريا على الأمن القومي العربي. تتحرك هذه الدول دبلوماسيًا واقتصاديًا لمواجهة التمدد التركي عبر تشكيل تحالف عربي قوي يهدف إلى إعادة سوريا إلى الحاضنة العربية. تبدأ خطوات هذا التحالف بزيادة الضغط السياسي على الحكومة السورية الجديدة وإجبارها على إعادة النظر في الاتفاقيات المبرمة مع تركيا. تُدعم هذه التحركات بجهود إعادة الإعمار والاستثمار الاقتصادي، مما يُقدم للشعب السوري بديلًا واقعيًا عن النفوذ التركي.

إلى جانب ذلك، تُكثف الدول العربية دعمها للجيش السوري الوطني، وتُعيد توحيد الفصائل المعارضة الوطنية تحت راية واحدة، بعيدًا عن النفوذ التركي والإخواني. تُسهم هذه الخطوات في عودة التوازن إلى المشهد السوري، حيث يتم التوصل إلى تسوية سياسية شاملة تُنهي حالة الاستقطاب الداخلي وتُعيد بناء الدولة السورية. إقليميًا، يُعتبر هذا السيناريو انتصارًا للموقف العربي في مواجهة التدخلات الخارجية، ويُعيد سوريا إلى دورها التاريخي كجزء أساسي من النظام العربي.

ثامنا : سيناريو الفوضى الشاملة وانهيار مؤسسات الدولة

في هذا السيناريو، يؤدي التدخل التركي إلى تفاقم الصراعات الداخلية بين القوى السورية المختلفة، ما يُغرق البلاد في حالة من الفوضى الشاملة. تُواجه الحكومة السورية الجديدة تحديات متزايدة من فصائل معارضة غير خاضعة للنفوذ التركي، إلى جانب الجماعات الكردية التي تُصعّد عملياتها العسكرية ضد الجيش التركي والفصائل الموالية له.

تتراجع مؤسسات الدولة المركزية بشكل كامل، وتتحول سوريا إلى ساحة مفتوحة للصراعات المسلحة بين الفصائل المختلفة. تزداد معاناة المدنيين بسبب تدهور الأوضاع الإنسانية والاقتصادية، فيما يزداد عدد اللاجئين والنازحين نتيجة تفاقم أعمال العنف. تستغل الجماعات الإرهابية مثل داعش هذه الفوضى لإعادة تنظيم صفوفها وشن هجمات جديدة في مختلف المناطق، مما يُعيد البلاد إلى نقطة الصفر.
إقليميًا، تُعتبر سوريا في هذا السيناريو تهديدًا مباشرًا لجيرانها، حيث تنتقل الفوضى عبر الحدود إلى الدول المجاورة مثل العراق والأردن ولبنان. كما تتزايد المخاوف الدولية من تحول سوريا إلى “دولة فاشلة” تُشكّل مصدر تهديد للأمن الإقليمي والدولي، ما قد يدفع قوى كبرى إلى التدخل العسكري المباشر لإعادة فرض الاستقرار.

تاسعا : سيناريو التسوية الدولية وفرض نظام سياسي جديد

في هذا السيناريو، تُسهم التطورات في سوريا في دفع المجتمع الدولي، وعلى رأسه الولايات المتحدة وروسيا، إلى التدخل لفرض تسوية سياسية شاملة تُنهي الصراع. تُجرى مفاوضات مكثفة بين القوى الإقليمية والدولية، بما في ذلك تركيا وإيران والدول العربية، للوصول إلى حل يُحقق التوازن بين مصالح الأطراف المختلفة.
تُسفر هذه التسوية عن تشكيل حكومة انتقالية تمثل مختلف الأطياف السياسية والعرقية والدينية في سوريا، مع ضمان التوازن بين القوى المحلية والإقليمية. يتم فرض نظام سياسي جديد يقوم على توزيع السلطة وفقًا لمبدأ اللامركزية، حيث تُمنح المناطق المختلفة درجة من الحكم الذاتي تحت مظلة الدولة السورية الموحدة.
تُرافق هذه التسوية جهود دولية مكثفة لإعادة الإعمار وإنعاش الاقتصاد السوري، بهدف إنهاء معاناة المدنيين وعودة اللاجئين. كما تُفرض ضمانات أمنية تُلزم جميع الأطراف بوقف العمليات العسكرية وسحب القوات الأجنبية تدريجيًا من الأراضي السورية. يُعتبر هذا السيناريو الأفضل من الناحية الإنسانية، حيث يُسهم في إعادة بناء الدولة السورية وإنهاء حالة الانقسام والفوضى، لكنه يتطلب توافقًا دوليًا وإقليميًا قد يكون صعب التحقيق في ظل المصالح المتضاربة.

عاشرا : سيناريو التقارب التركي-الإيراني على حساب سوريا

في هذا السيناريو، تُدرك تركيا وإيران أن مصالحهما في سوريا تُحتم عليهما تنسيق مواقعهما بشكل أكبر، بهدف تقاسم النفوذ وتجنب أي مواجهة مباشرة بينهما. تُبرم أنقرة وطهران اتفاقًا غير مُعلن يُحدد مناطق نفوذ كل طرف: تُسيطر تركيا على الشمال السوري وتُعزز وجودها العسكري فيه، فيما تحتفظ إيران بنفوذها في دمشق وجنوب سوريا.
تُساهم هذه التفاهمات في تعزيز نفوذ الطرفين على حساب الشعب السوري، الذي يجد نفسه رهينة لمصالح القوى الإقليمية. تُواصل تركيا تنفيذ مشروعها القائم على دعم الإسلام السياسي وإعادة إنتاج “الدولة العثمانية”، بينما تُركز إيران على تعزيز وجودها العسكري والاقتصادي لضمان استمرار دورها كقوة إقليمية مؤثرة.
تُنتج هذه التفاهمات حالة جديدة من الاستقطاب الداخلي، حيث تتصاعد التوترات بين القوى المدعومة تركيًا وتلك المدعومة إيرانيًا، مما يُعمق الانقسام ويُعطل أي جهود لإعادة توحيد البلاد. إقليميًا، تُثير هذه التحركات مخاوف الدول العربية وإسرائيل، التي ترى في التقارب التركي-الإيراني تهديدًا مباشرًا لأمنها القومي. تُسهم هذه المخاوف في زيادة التدخلات الخارجية، مما يُحول سوريا إلى ساحة صراع إقليمي دائم، يُصعب معه تحقيق أي استقرار مستقبلي.

بهذه السيناريوهات العشرة، يتضح أن مستقبل سوريا سيبقى مرهونًا بمصالح القوى الإقليمية والدولية، مع استمرار التحديات الداخلية التي تُعقد أي محاولة لإيجاد حلول مستدامة. كل سيناريو يحمل تداعيات سياسية، اقتصادية وإنسانية تختلف من حالة لأخرى، ما يجعل الوضع السوري أحد أكثر الملفات تعقيدًا في المشهد الإقليمي والعالمي.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق