قال الحسن الداكي، الوكيل العام للملك رئيس النيابة العامة، إن موضوع “العقوبات البديلة للعقوبات السالبة للحرية: بين التنظيم القانوني وآليات التنزيل” له راهنية، كما يعتبر من المواضيع المهمة التي تحيل مناقشتها على مقاربات دستورية وحقوقية وقضائية تتصل بمسار دولي يهدف إلى أنسنة العقوبات الجنائية.
وأضاف الداكي في كلمة ألقاها نيابة عنه هشام بلاوي، الكاتب العام لرئاسة النيابة، خلال افتتاح أشغال هذه الندوة العلمية المنظمة بشراكة مع المؤسسة الألمانية للتعاون القانوني الدولي، أن انعقاد هذه الندوة الهامة يأتي في سياق دقيق يطبعه الاستعداد لتنزيل مقتضيات القانون رقم 43.22 المتعلق بالعقوبات البديلة، الذي شكل نقلة نوعية غير مسبوقة في مجال السياسة العقابية داخل المنظومة القانونية ببلادنا، كما يأتي في سياق يعرف مجموعة من المبادرات التشريعية المرتبطة بهذا الموضوع.
وأورد المتحدث أنه إذا كانت العقوبات السالبة للحرية تعرف انتشارا عالميا كجزاء تقره القوانين لتحقيق الردع العام والخاص، فإن الدراسات والتقارير الدولية الصادرة عن الهيئات الأممية، مثل مكتب الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة والمخدرات، واللجنة الدولية للعدالة الجنائية والوقاية من الجريمة، تؤكد أنه على مستوى الممارسة، فإن اللجوء العام إلى عقوبة السجن يتصاعد دون إمكانية البرهنة على أن ذلك ينتج عنه تحسن في مؤشرات الأمن والسكينة العامة.
وتابع: “ففي العالم حاليا يوجد ملايين السجناء، يتوزعون ما بين معتقلين احتياطيين ومدانين نهائيين، ولا شك أن الأرقام التي ما زالت تسجل سنويا ترسم خطا تصاعدياً في معظم البلدان، كانعكاس موازٍ للدينامية الاقتصادية والاجتماعية والتكنولوجية التي يعرفها عالم اليوم إلى جانب ارتفاع الكثافة السكانية ومعدلات الجريمة”.
وشدد الداكي على أن آثار السجن وخيمة وتغرق الدول والأفراد في أعباء مختلفة، منها ما هو مادي واقتصادي، ومنها ما هو اجتماعي وأسري، مبرزا أن بدائل الاعتقال الاحتياطي والتدابير البديلة للعقوبات السالبة للحرية باتت اليوم ضرورة ومطلباً ملحاً في السياسات العقابية المعاصرة حيث صار اعتماد التدابير البديلة للعقوبات السالبة للحرية من مؤشرات النجاح في تنفيذ السياسات الجنائية، ومطلباً حقوقياً دولياً ووطنياً ومطلباً قضائياً، من شأن تنظيمها في التشريعات الوطنية والعمل على تسهيل تفعيلها على الوجه المنشود أن يسهم في التخفيف من الآثار الوخيمة للعقوبات الحبسية قصيرة المدة، لا سيما تلك المرتبطة بتفاقم مشكل الاكتظاظ الذي تعرفه المؤسسات السجنية، والذي أضحى يؤرق السياسات العمومية والمؤسسات القائمة على تنفيذ النظم العقابية.
وقال المسؤول القضائي ذاته إن موضوع بدائل العقوبات السالبة للحرية كان حاضراً ضمن محاور النقاشات العمومية والقانونية التي عرفتها بلادنا بخصوص إصلاح منظومة العدالة، حيث أفضت التشخيصات الدقيقة التي أجريت في عدة محطات كبرى، أبرزها الحوار الوطني حول إصلاح منظومة العدالة، إلى ترسيخ القناعة بتبني إصلاح جذري عميق يستشرف مستقبلاً يواكب التوجهات الحديثة للسياسة الجنائية، الرامية في جزء مهم منها إلى تنويع رد الفعل العقابي تجاه الجريمة، عبر سن خيارات تشريعية بديلة ومتنوعة تمكن من تفادي وتجاوز سلب الحرية، سواء قبل المحاكمة أو خلال النطق بالعقوبة أو في مرحلة تنفيذها.
واستحضر الخطاب الملكي بمناسبة ذكرى ثورة الملك والشعب في 20 غشت 2009، الذي حدد المجالات ذات الأسبقية لإصلاح منظومة العدالة، ومن بينها تحديث المنظومة القانونية، لا سيما ما يتعلق بضمان شروط المحاكمة العادلة وبدائل العقوبات والطرق القضائية البديلة، حيث قال الملك: “وهو ما يتطلب نهج سياسة جنائية جديدة، تقوم على مراجعة وملاءمة القانون والمسطرة الجنائية، ومواكبتهما للتطورات، بإحداث مرصد وطني للإجرام، وذلك في تناسق مع مواصلة تأهيل المؤسسات الإصلاحية والسجنية. وبالموازاة مع ذلك، يتعين تطوير الطرق القضائية البديلة، كالوساطة والتحكيم والصلح، والأخذ بالعقوبات البديلة”.
وأكد الداكي أن رئاسة النيابة العامة تستحضر أهمية التكوين في هذا المجال باعتباره أحد المداخل الأساسية لتوفير بيئة خاصة قادرة على التنزيل الأمثل لتطبيق العقوبات البديلة بمختلف أنواعها، مشيدا بالقانون رقم 43.22 المتعلق بالعقوبات البديلة، الذي كان موضوع مقاربة تشاركية موسعة يرجع الفضل في تبنيها إلى وزير العدل، مما مكن من إثراء النقاش بشأنه وفتح المجال لجميع المؤسسات المعنية لإبداء تصوراتها وموقفها ومقترحاتها حول مقتضياته.
وأضاف الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض أن هذا القانون جاء بمقتضيات جديدة أدمجت في القانون الجنائي وقانون المسطرة الجنائية، في انتظار إدخال التعديل الشامل على هذين القانونين، الذي يعتبر عملا طموحا يروم تحديث الترسانة التشريعية الوطنية بغية ملاءمتها مع المعايير المعتمدة دولياً، وتعزيز عمل السلطات القضائية ومؤسسات العدالة الجنائية لتحقيق مكافحة ناجعة لأنواع محددة من السلوك الإجرامي، وفق مقاربات مندمجة ومتكاملة بشكل يتجاوز التداعيات السلبية للاعتماد الكلي على العقوبات السالبة للحرية.
وذكر أن هذا القانون أسند للنيابة العامة، إلى جانب المحكوم عليه أو دفاعه أو الممثل الشرعي للحدث، صلاحيات متعددة تمارسها بمناسبة تطبيق أحكامه، كأن تلتمس من المحكمة استبدال العقوبة الحبسية المحكوم بها بعقوبة بديلة أو أكثر.
كما عهد إليها، يورد الداكي، بإحالة المقرر القاضي بعقوبة بديلة بعد اكتسابه لقوة الشيء المقضي به، إلى قاضي تطبيق العقوبات الذي يتولى السهر على تنفيذ إجراءات هذه العقوبة، بالإضافة إلى صياغتها لمستنتجات تقدم إلى قاضي تطبيق العقوبات قبل الفصل في جميع المنازعات المتعلقة بتنفيذ العقوبات البديلة أو وضع حد لتنفيذها، وعند إصدار هذا الأخير لجميع القرارات والأوامر المتعلقة بها، إلى غير ذلك من الصلاحيات.
وشدد على أن هذا المعطى يقتضي من قضاة النيابة العامة أن يساهموا في تفعيل هذا القانون وأن يحرصوا على التطبيق السليم والعادل لأحكامه، كما ستعمل رئاسة النيابة العامة من جهتها على تتبع ومراقبة مدى إعمال هذه البدائل لبلوغ الغايات السامية التي شُرعت من أجلها.
وأوضح رئيس النيابة العامة أنه إذا كان قانون العقوبات البديلة يشكل قفزة نوعية في مجال تطوير السياسة الجنائية ببلادنا والتخفيف من ظاهرة اكتظاظ السجون للمساهمة في تحقيق الاندماج الاجتماعي والاقتصادي للمحكوم عليهم، فإن التقائية تحقيق هذه الأهداف يقتضي من منظور رئاسة النيابة العامة التعجيل بتعديل قانون المسطرة الجنائية عبر اعتماد تدابير جديدة بديلة للاعتقال الاحتياطي وتوسيع وعاء الجرائم التي يمكن أن يطبق فيها، وتمكين قضاة النيابة العامة من خيارات أوسع، على غرار تلك المتاحة لقضاة التحقيق في إطار المراقبة القضائية، بما يقوي نجاعة أداء العدالة الجنائية من خلال نهج سبل أرحب لضمان نجاح قانون العقوبات البديلة.
وأكد المصدر عينه أن هذه الندوة هي فرصة للتعرف على القانون رقم 43.22 وما جاء به من أصناف للعقوبات البديلة ومختلف الإشكاليات التي يمكن أن يطرحها، وفرصة لتبادل الأفكار والخبرات والاطلاع على التجربة الألمانية في تدبير العقوبات البديلة للعقوبات السالبة للحرية، سواء من حيث تنظيمها أو أنواعها أو كيفية الإشراف على تنفيذها والإشكالات التي تطرحها على المستوى العملي، ما سيمكن القضاة من استشراف مستقبل تنزيل مقتضيات القانون المتعلق بالعقوبات البديلة.
0 تعليق