المعجم التاريخي للعربية .. من حفظ التراث إلى تأسيس رؤية حضارية جديدة

هسبيرس 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

1

شهد الفكر اللغوي العربي نهايةَ هذه السنة حدثًا ثقافيًا وعلميًا فريدًا في سجّل الثّقافة العربية الحديثة، تمثّل في إنجاز المعجم التاريخي للغة العربية، الذي يجسّد بجلاء ما تزخر به هذه اللغة من غنى وثراء، ويبرز إسهاماتها في صرح الحضارة الإنسانية عبر مختلف العصور. بإتمام إعداده يصبح هذا المعجم المرجع الأكثر شمولًا ودقّة للغة العربية، يستفيدُ منه الأكاديميون والمثقفون، والشعراء والأدباء، والباحثون؛ يحفظ الذاكرة اللغوية العربية عبر توثيق منهجي دقيق للنصوص والشواهد الشعرية المستخلصة من مدونة لغوية مُحوسَبة، جمعت آلاف المصادر والمراجع. يقع المعجم في مئة وسبعة وعشرين مجلدا، ويتوفر على منصة رقمية متاحة للعموم: https://www.almojam.org/؛ بهذا، يُعتبر المعجم التّاريخي للغة العربية أكبر وأضخم مشروع لغوي في العالم، وقد حصل على شهادة الاعتراف من موسوعة غينيس للأرقام القياسية تم تسليمها يوم 18 ديسمبر 2024 لصاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة والرئيس الأعلى لمجمع اللغة العربية بالشارقة، الذي شرف المشروع برئاسته الفخرية.

2

ثمة قضايا عدة أثارت اهتمامي وشغلت بالي أثناء إشرافي على الفريق العلمي المغربي الذي ساهم في إعداد هذا المعجم، إلى جانب فرق علمية تنتمي إلى مختلف المجامع والمراكز اللغوية العربية، أجدُ من الملائم أن أستهل الحديث عنها بما يلي:

يُعَدُّ المعجمُ التاريخي للغة العربية بحقّ معجم المعاجم، اعتُمد في إعداده على مُدونة تضمّ النقوش القديمة، والقرآن الكريم، والحديث الشريف، والشعر العربي، وأمهات الكتب البلاغية، والفلسفية، والأدبية، والعلمية. لم يكن توفير هذه المدونة وإعدادها مهمة سهلة، فقد تطلب جمعها وتصنيفها وتبويبها خبرة علمية قادرة على التمييز بين الطبعات المختلفة، واستبعاد النصوص التي تحتوي على أخطاء أو تحريفات. بهذا المعنى، اعتبرتْ قضية التأثيل أساسية في صناعة هذا المعجم، لأنها مكنتْ من معرفة أصول الألفاظ إن كانت عربية أو لاتينية أو يونانية وسواها، وأمكن وبالتالي ردها إلى أصلها اللغوي، أو إلى مشترك لفظي حين تنتسبُ اللغة إلى نفس الأسرة اللغوية السامية أو السريانية أو اليونانية؛ علما أن تأثيل الألفاظ اقترن بقضية أخرى لا تقل أهمية وتتعلق بترتيب الجذور، وقد اختار الفريق العلمي للمعجم التاريخي للغة العربية أن يكون ترتيبها حسب أصولها ووفق الحرف الأول فالثاني فالثالث من حروف الهجاء؛ بحيث يأتي قرنُ الجذر وتفريعاته وفق ما جاء في منهج المعجم، أيْ البدء بالجذر ثم نظيره السامي إن وجد، ثم عرضُ المعاني الكلية بالتدرّج انطلاقا من المعنى الأصلي فالفرعي، ومن الحسّي إلى المعْنوي، ومن الحقيقي إلى المجازي، ومن المألوف إلى الغريب، ومن الأكثر ورودا إلى الأقل، بدءا بالفعل، ثم المصدر، ثم المشتق.

لا يمكن، في تقديري، النظر إلى إعداد هذا المعجم بوصفه عملًا مكتملًا مكتفيا بذاته، إذ إنّ ذلك يغفل طبيعة اللغة بوصفها كيانًا حيًا نابضًا بالتجدد. فاللغة ليست مجرّد سجل للماضي، بل هي منظومة حيوية تتفاعل مع محيطها فتتأثر به وتؤثر فيه. من هذا المنطلق، تبرز الحاجة الملحة إلى صناعة معجم يستجيب لروح العصر، لا يقتصر دوره على صيانة التراث اللغوي فحسب، بل يمتد ليشمل المفردات المستحدثة، لا سيما تلك التي تُولد من رحم الابتكارات العلمية والتقنية، أو تعبّر عن التحولات الثقافية والاجتماعية التي يشهدها العالم اليوم.

لا أرى من الضروري تخصيص هذه الورقة للخوض في المسائل النظرية المرتبطة بالمعجم التاريخي للغة العربية، وقد باتت اليوم معروفة ومتداولة. كما لن أركز على قضايا المنهج التي أصبحت محكومة برؤية واضحة وثّقفها دليلٌ أعدّته لجنة المعجم التاريخي بمجمع اللغة العربية في القاهرة، بالتعاون مع المجلس العلمي لاتحاد المجامع اللغوية العربية، وصدر في كتيب تحت عنوان “المعجم التاريخي للغة العربية: المنهج والتطبيق”، يضع إطارًا منظمًا للقواعد المتعلقة بالعصور اللغوية المختلفة: عصر ما قبل الإسلام، الإسلامي، العباسي، الدول والإمارات، وصولًا إلى العصر الحديث. كما يتناول بدقة توثيق الجذور وترتيب المواد بناءً على الأصول اللغوية للغات السامية، إضافة إلى معالجة المعاني الكلية، وترتيب المداخل، وآليات استحضار الشواهد.

ما أطمح إليه في هذه الورقة هو التركيز على النقاط التالية:

3

يعتبرُ الاهتمام باللغة سمة من سمات تطور المجتمعات وقدرتها على الإنتاج المعرفي، كما أنّ الاهتمام بتاريخ اللغة والتأريخ لها ولأصولها سبيل لفهم الماضي واستشراف المستقبل أيضا، ذلك ما يمكن استخلاصه من كل المحاولات التي اهتمت بالتأريخ للعربية بدءا من مباردة المستشرق الألماني أوغست فيشر، وسعيه إلى تأريخ تطور العربية الفصحى بجهد علمي مُعتبر للجنة شكّلها مجمع القاهرة للغة العربية سنة 1936؛ بيد أن ما أنجزته هذه اللجنة توقفَ من أول حرف الهمزة إلى مدخل “أَبَدَ”، وتوقّف المشروع لظروف مُتعددة منها الحرب العالمية الثانية، ومرض وموت المستشرق الألماني في ما بعد؛ وكان للجهود اللاحقة أيضا دور في استكمال التصور المنهجي، لكن المشروع دخل في سبات عميق.

اجتهد اللغويون والمعجميون في كل اللغات بوضع المعاجم التاريخية للغاتهم، من ذلك مبادرة الأخوين غريم واهتمامهما بوضع معجم تاريخي للغة الألمانية عام 1838، ولم يكتمل المشروع إلا عام 1961 بما مجموعه 32 مجلّدًا تضم 330 ألفَ مدخلٍ معجمي في اللغة الألمانية. أمّا معجم اللغة الإنجليزية فبدأ العمل بتنفيذه عام 1857 مؤرِّخًا لـ 1250 عامًا من تطوّر هذه اللغة، واستغرق وضعُ مدونَته اللغوية وحدها عشرين عامًا، ساهمَ في جمع نصوصها تطوعًا 800 قارئ وكاتب، وقد صدر المعجم مُكتملا بعد سبعين عاما أي حواليْ عام 1928، ونُشر في عشرة مجلدات بعنوان معجم أوكسفورد للغة الإنجليزية. كما بدأ العمل بالمعجم الفرنسي عام 1778، وتطلّب تنفيذه سبعين عامًا حتى عام 1858.

باستحضار هذه التجارب وغيرها، تتبين صعوبة إنجاز المعجم التاريخي للغة ما، بحيث تبرز العديد من القضايا المنهجية والتطبيقية المتعلقة إما بمعايير اختيار الجذور والمداخل الأصلية منها والمشتقة، أو بكيفية اختيار الشواهد، وصياغة التعريف وفق ترتيب معلوم.

يحفل التراث العربي بثروة لغوية ومعجمية واسعة، وحركة تأليف معجمي امتدت وتطورت عبر مختلف الحقب التاريخية. إلا أنّ إعداد معجم تاريخي يرصد تطور الألفاظ العربية، ويوثق دلالاتها وتحولاتها في النصوص والشواهد، منذ أقدم العصور حتى الزمن الحاضر، يمثل خطوة هامّة من أجل فهم مسيرة اللغة العربية وتحولاتها. استلزم إنجاز هذا المشروع الكبير مراعاة جملة من الاعتبارات الأساسية، أعرض لأبرزها بإيجاز وتركيز:

أولا: لا ينبغي أن يُختزل دور المعجم التاريخي في التأريخ للألفاظ المستعملة فحسب، بل يمتد اهتمامه ليشمل الألفاظ المهملة التي أوردها السلف ولم تحظَ بشيوع في الاستعمال. ولهذا تُعدّ المدونة اللغوية ذات أهمية بالغة، إذ إن نقصانها يجعل من الصعب تتبع تلك الألفاظ المهملة التي قد تشكّل الجذر الأساسي لكثير من المفردات المستعملة. ومن هذا المنطلق، يُعدّ التأثيل، كما أسلفتُ، عنصرًا مهما في صناعة المعجم التاريخي، لما يوفّره من قدرة على الكشف عن أصول الألفاظ، سواء أكانت عربية خالصة أو ذات جذور لاتينية أو يونانية، مما يُتيح ردّها إلى أصولها اللغوية أو إلى مشترك لفظي في حال انتماء اللغة إلى الأسرة اللغوية نفسها، مثل السامية أو السريانية أو اليونانية، على سبيل المثال.

ثانيا: يتصل تأثيل الألفاظ بقضية هامة تتعلّق بمسألة ترتيب الجذور. وقد اعتمد المعجم التاريخي للغة العربية ترتيب المواد المعجمية استنادًا إلى أصولها، حيث يتم ترتيبها وفق الحروف الأولى فالثانية فالثالثة من حروف الهجاء. ويتبع هذا المنهج في ترتيب الجذور تفريعاتها، حيث يبدأ بالجذر، ثم يُذكر نظيره السامي إن وجد، تليه المعاني الكلية بشكل تدريجي، بدءًا بالمعنى الأصلي ثم الفرعي، من الحسي إلى المعنوي، ومن الحقيقي إلى المجازي، ومن المألوف إلى الغريب، ومن الأكثر ورودًا إلى الأقل. كما يتم البدء بالفعل، ثم المصدر، فالمشتق، وفق هذا التدرج المنهجي.

4

لا يُمكن اليوم إنكار أن اللغة تمثل ظاهرة اجتماعية وثقافية ذات أبعاد إنسانية متعددة، إذ تمسُّ قيم الهوية، وتؤثر في مجالات الاقتصاد، والتعليم، والإعلام، وغيرها. فقد اتسعت دائرة المهتمين بالشأن اللغوي في العالم العربي، وتعددت مجالات البحث بين اللغويين، واللسانيين، والمعجميين، والبلاغيين، كما تزايدت الجمعيات المدافعة عن اللغة العربية والمختبرات التي تعنى بشؤونها التركيبية والدلالية. بل إن اللغة، قبل كل ذلك، تُعدُّ شأنًا سياسيًّا يستدعي تخطيطًا وتنظيمًا متماسكًا يتناغم مع توجهات الأمة والدولة، ويُتيح لها المشاركة في التنافسية اللغوية مع اللغات الأجنبية التي لها أيضًا تاريخها ونظامها ومبررات استعمالها. ومن هنا، فإن إنجاز المعجم التاريخي للغة العربية يمثل المصدر الأوفى لحفظ الذاكرة اللغوية العربية من خلال توثيق دقيق للنصوص والأشعار والشواهد المستخلصة من أمهات المصادر والمراجع، حيث يُمكن الاستفادة منه باعتباره مرجعا أساسيا لفهم قواعد اللغة العربية ونحوها وصَرْفها.

يعتقد البعض أننا عندما نؤرخ للغة العربية، فإننا نؤرخ للغة الماضي، لكن الحقيقة عكس ذلك تمامًا؛ نحن نؤرخ لعربية المستقبل، التي يقدر عدد مستخدميها على الإنترنت بحوالي 237 مليون شخص وفقًا لأحدث الإحصاءات مطلع عام 2020، وأن 72% منهم يتعاملون معها عبر منصة “تويتر” وفقًا لإحصاء عام 2017، ولعله اليوم يزيد قليلًا عن ذلك. غير أن الخطوة الأهم بعد إنجاز هذا المعجم تكمن في استمرارية تحديثه بشكل دوري، لأن اللغة كائن حي يتطور باستمرار، خاصة مع ظهور مفردات جديدة أو اكتساب الكلمات لدلالات حديثة تتماشى مع تحوّلات العصر.

ومن ثمة، فإن التحديث الدوري للمعجم التاريخي للغة العربية لا يقتصر على ضمان بقائه مرجعًا لغويًا، بل يحفظ له القدرة على التجدد، ليظل وثيقة حيّة تعكسُ تطوّر اللغة وتفاعلها مع المُسْتجَدّ من الألفاظ والمصطلحات. بهذا الشكل، يتحوّل المعجم من مجرد سجل تاريخي ثابت إلى أداة حيّة وفعالة تواكب التغيّر المستمرّ في مفردات اللغة ودلالاتها، وتحفظ لها صلتها المستمرة بالعصر.

من هنا، تتضح أهمية إدراج المعجم التاريخي في المناهج الدراسية والجامعية، إذ يسهم في بناء وعي عميق لدى الأجيال الناشئة بتاريخ المفردات ودلالاتها، سواء القديمة أو المعاصرة. هكذا، يُعدّ إعداد المعجم التاريخي للغة العربية إنجازًا حضاريًا يختزل في جوهره عمق اللغة العربية بوصفها وعاء للمعرفة ومرآة لتحولات الفكر والثقافة عبر العصور، مما يعزز صلتها بجذورها ويُؤهّلها لمواجهة تحديات الحاضر والمستقبل.

لنتأمل؛ وإلى حديث آخر.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق