لكريني يستعرض أدوار الثقافة في تحقيق رهانات التنمية الإنسانية والمستدامة

هسبيرس 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

علق الدكتور إدريس لكريني، أستاذ العلاقات الدولية ومدير مختبر الدراسات الدستورية وتحليل الأزمات والسياسات، على دور الثقافة كعنصر حيوي في تعزيز التنمية البشرية والمستدامة، مبرزا أن “الثقافة ليست مجرد ممارسات فنّية أو تراثية، بل هي أيضا ركيزة أساسية للتنمية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية”، ومعتبرا الثقافة في العصر الحديث مكونا أساسيا في مفهوم “القوة الناعمة”، التي تتمثل في القدرة على التأثير والجذب عبر وسائل فكرية وفنية، كما أنها تعتبر من حقوق الإنسان الأساسية التي يجب أن تُحترم وتُدمج ضمن السياسات العمومية للدول.

وأضاف لكريني، ضمن مقال معنون بـ”الثقافة ورهانات التنمية الإنسانية”، توصلت به هسبريس، أن التنمية الإنسانية لا تتحقق إلا في إطار ثقافي يعزز من استقلالية الشعوب ويضمن لها القدرة على التعبير والتطور، لافتا إلى أنه “رغم أهمية الثقافة في مختلف المجالات فإن العديد من الدول النامية لا تعيرها الاهتمام الكافي، ما يؤدي إلى تراجع في تنميتها”، ومشيرا إلى أن “التنمية ليست مجرد تحقيق حاجات مادية، بل هي عملية شاملة تحترم الإنسان في جميع أبعاد وجوده، بما في ذلك البُعد الثقافي”.

وسجل الأكاديمي المغربي أن الثقافة تلعب دورا بارزا في تعزيز التنمية الاقتصادية عبر دعم الصناعات الإبداعية والمساهمة في تطوير السياحة وتعزيز الهوية الوطنية، مؤكدا أنه “من خلال النهوض بالثقافة يمكن للدول أن تسهم في تقليص الفوارق الاجتماعية والمجالية، وتدعيم الابتكار والنمو”.

نص المقال:

تعتبر الثقافة رافدا أساسيا ضمن مقومات التنمية الإنسانية. وقد عرفت منظمة اليونسكو الثقافة باعتبارها تجسيدا لمجمل المعالم التاريخية والمتاحف وممارسات التراث الحي وأشكال الفن؛ ونظرا لأهميتها داخل المجتمعات فقد اهتمت بها حضارات قديمة، ما سمح بانتشار وازدهار العلوم والفلسفة والفنون المختلفة.

لا يمكن للتنمية وللديمقراطية أن يتحققا دون أساس ثقافي، فهو المرتكز الذي يعطي عمقا واستدامة للمفهومين. وتعتبر الثقافة في الوقت الراهن عنصرا من مكونات القوة الناعمة التي تقوم على الجذب والتأثير، إذ توليها الكثير من الدول الكبرى أهمية بالغة. وفي مقابل ذلك مازالت الكثير من الدول النامية تهمل هذا الجانب الحيوي، ما ينتج عنه هدر كبير لأحد مقومات التنمية.

إن التنمية حقّ وليست منّا، وهي تحيل على مجمل التحولات التي تطال المجتمع في مختلف المجالات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والتقنية، بالشكل الذي يضمن توافر الشروط اللازمة لحياة أفضل؛ وبما يحقّق التطور والرفاه للأفراد في جوّ من الكرامة الإنسانية وعدم التمييز.

والتنمية الإنسانية والمستدامة هي التي تستحضر الإنسان كفاعل ومستهدف، وهي التي تنحو إلى تحقيق الحاجيات الراهنة من دون مساس بمقومات حياة الأجيال المقبلة، كما أنها لا تتحقّق إلا في فضاء قوامه الحرّية واحترام الحقوق.

ووعيا منها بأن كسب رهانات السلام العالمي يمر عبر تطوير الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية للمجتمعات تبنّت الجمعية العامة للأمم المتحدة إعلان الحقّ في التنمية عام 1986.

وأصبحت الكثير من الهيئات الدولية تضع مؤشرات عدة لقياس مستوى التنمية عبر العالم، ترتبط في مجملها بالحدّ من الفوارق الاجتماعية والمجالية، وتمكين الشباب والمرأة، وتطوير البنيات التحتية، ونظم البحث والتعليم؛ بالإضافة إلى ضمان الولوج إلى عدد من الخدمات الصحية والاجتماعية والثقافية، وكذا الحقّ في التكنولوجيا الحديثة، واستحضار ذوي الاحتياجات ضمن السياسات العمومية.

وفي مقابل ذلك، واعتبارا لشمولية الإنسان التي لا تقبل التجزئة والانتقائية، سواء كانت سياسية أو اقتصادية واجتماعية، تزايد الاهتمام الدولي بالشأن الثقافي، وإن كان الأمر أقل مقارنة بباقي الحقوق.

وترتبط الحقوق الثقافية بشكل أساسي بالحق في التعليم والحق في حرية الفكر والتعبير والمساواة، والولوج بشكل فردي أو جماعي للثقافة بكل روافدها العلمية والتعليمية والفنية؛ مع الأخذ بعين الاعتبار ظروف الأشخاص المعدمين والمسنين وذوي الاحتياجات الخاصة في هذا الصدد؛ وهي تعتبر أيضا من ضمن الحقوق الأساسية التي تعزز حماية وتطور الإنسان، وتدعم وجوده وتسمح له بالتعبير عن أفكاره، وتعتبرها الأمم المتحدة من ضمن الأسس الهامة التي تعزز التنمية المستدامة.

وتبرز إحصائيات صادرة عن اليونسكو أن القطاع الثقافي والإبداعي يوفر أكثر من 48 مليون وظيفة على المستوى العالمي؛ ولذلك يمكن القول إن عدم استحضار الثقافة في السياسات العمومية يمثل هدرا حقيقيا بالنسبة للدول وللمجتمعات.

إن الاهتمام بالثقافة مدخل أساسي لإضفاء الطابع الإنساني والحضاري على السياسات العمومية في إطار يزاوج بين الخصوصية والانفتاح على المحيط. وقد استطاعت بعض الدول كالصين واليابان أن تحقق مكتسبات في مجال التكنولوجيا وتحديث مجتمعاتها دون التفريط في المكون الثقافي بخصوصياته المختلفة.

وقد تطرقت الكثير من المواثيق والقوانين الدولية ذات الصلة بحقوق الإنسان للحقوق الثقافية؛ نذكر من ضمنها المادة 27 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لعام 1948، واتفاقية لاهاي لعام 1954 لحماية الممتلكات الثقافية في حالة نزاع مسلح، والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لعام 1966؛ والمادتين 28 و29 من اتفاقية حقوق الطفل لعام 1989.

لا يحتاج الإنسان في حياته إلى المستلزمات الغذائية والمادية والتكنولوجية فقط، بل أيضا إلى ثقافة تعطي معنى لوجوده. وقد أكدت منظمة اليونسكو على أهمية الثقافة في تعزيز التنمية، فكثيرة هي البلدان التي عرفت بمثقفيها وكتابها وفلاسفتها، وعديدة هي الكتب التي خدمت دولا ومجتمعات ومناطق، وساهمت في التعريف بعدد من القضايا. كما أن الثقافة مقوم أساسي ضمن عناصر “القوة الناعمة” التي تقوم على استثمار مختلف القنوات الفنية والروحية والعلمية والفكرية والرياضية في تحقيق المصالح المختلفة، وهو ما ينطبق على عدد من الدول، كالولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا والصين التي تخصص إمكانيات مالية هامة في هذا الخصوص.

إن كسب هذا الرهان مسؤولية جماعية تتحمل فيها الدولة قسطا وافرا، من حيث إرساء سياسة ثقافية في إطار من المقاربة التشاركية المنفتحة على المثقفين والمبدعين، وتخصيص إمكانيات كافية لقطاع الثقافة، وتيسير الولوج للمرافق الثقافية بروافدها المختلفة، ودعم الإنتاج الفكري والإبداعي، وربط الثقافة بالقطاع الاقتصادي، وتحويلها إلى قطاع منتج وجاذب للاستثمارات وللسياحة وللإبداع في مجالات الصناعة والخدمات.

ويمكن للثقافة أن تلعب دورا مهما في تجاوز الاختلالات المجالية، عبر إحداث مؤسسات ثقافية في القرى والمناطق النائية (دور الشباب ودور الثقافة ومعاهد فنية وموسيقية ومكتبات ومركبات متعددة الوسائط…)؛ علاوة على التعريف بالتراث بروافده الحضارية والإنسانية، وتحويل المهرجانات الثقافية والفنية إلى فضاءات للتسويق المجالي وجلب الاستثمارات والترويج للمنتجات المحلية، وترسيخ ثقافة مجتمعية تدعم الاهتمام بالثقافة وبمكوناتها المختلفة.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق