يرى الباحث المغربي الدكتور إدريس الكنبوري أن مدونة الأسرة تمثل محورا مركزيا في الجدل المجتمعي بالمغرب، حيث تُظهر النقاشات المتعلقة بالتعديلات المقترحة عليها مدى ارتباطها العميق بالقيم الدينية والاجتماعية، مشيرا إلى أن “المدونة ليست مجرد قانون ينظم العلاقات الأسرية، بل هي انعكاس للتفاعل بين الشريعة الإسلامية والتحولات الثقافية والمجتمعية”.
وسجل الكنبوري، في مقال توصلت به هسبريس بعنوان “مدونة الأسرة وسؤال الدين”، أن النقاش حول المدونة ينقسم إلى تيارين رئيسيين؛ تيار علماني يدعو إلى تغييرات جذرية لتحقيق “مواكبة العصر” بعيدا عن الثوابت الدينية، وتيار محافظ يتمسك بالإبقاء على جوهر المدونة ضمن الإطار الشرعي، لافتا إلى أن “أي تعديل جذري قد يؤدي إلى زعزعة استقرار النظام الأسري، ما يهدد البنية الاجتماعية والسياسية للمجتمع المغربي”.
وتناول الكاتب مقارنة بين المجتمعات الغربية، التي شهدت تعديلات متكررة على قوانين الأسرة وأدت إلى تفككها، والمجتمعات الإسلامية التي حافظت على استقرارها بفضل التمسك بالقيم التقليدية والدينية، مؤكدا أن “صمود هذه القيم في العالم الإسلامي يعكس قوة العلاقة بين الدين والأسرة، بعكس ما يحدث في المجتمعات العلمانية، حيث الفردية هي المهيمنة”.
نص المقال:
يقدم الجدال الدائر حول مدونة الأسرة الذي انطلق بعد ظهور بواكير التعديلات المقترحة ـ وإن لم تكتمل بعد ـ دليلا على أهمية وخطورة قانون الأسرة في المجتمع المغربي، فهذا القانون على خلاف جميع القوانين الأخرى يحظى بانخراط الجميع، مهما كانت مستوياتهم والفئات الاجتماعية التي ينتمون إليها ومهما كانت أعمارهم؛ إذ إن مدونة الأسرة تمس حياة كل فرد على حدة، كما تهم الأسرة التي تتكون من أفراد مختلفين بمثل ما تهم المجتمع الذي يتشكل من أسر مختلفة.
ونظرا لتشعب القضايا المرتبطة بالمدونة فسوف نركز في هذا المقال على علاقة مدونة الأسرة بالإسلام من جهة، وعلاقة قوانين الأسرة في مختلف المجتمعات بالدين جملة من جهة ثانية.
هناك تياران يتناكفان حول موضوع المدونة في المغرب؛ التيار العلماني وفي داخله الحركات النسائية، والتيار العام وفي داخله العلماء والإسلاميون والمثقفون الهوياتيون وغالبية المغاربة. بالنسبة للتيار الأول فإن المطلوب تغيير جذري لمدونة الأسرة تحت دعوى عامة وواسعة هي “مواكبة العصر” دون أي ارتباط ضروري بالشريعة نظرا لتغير الأحوال. أما بالنسبة للتيار الثاني فإن المطلوب تعديل لا يمس بجوهر المدونة الشرعي، لأن تغير الأحوال لا يفيد تغير الشرائع.
والسؤال هو: هل من الممكن فك العلاقة بين مدونة الأسرة والإسلام؟.
الواقع أن مدونة الأسرة في المغرب آخر قانون بقي غير متأثر بالقوانين الأوروبية، وهذا هو الوضع في المجتمعات العربية والإسلامية بشكل عام، إذ ظلت قوانين الأسرة ملتزمة بالحدود الشرعية طيلة العقود التي تلت الحصول على الاستقلال، ما عدا بعض التجارب التي حصلت في تركيا أتاتورك وتونس بورقيبة. وخلال العقود الماضية كانت مطالب تغيير قوانين الأسرة في العالم العربي والإسلامي مطروحة على استحياء، ولهذا أسبابه الموضوعية، فاليسار كان مهتما بالجوانب السياسية وبقضية الحكم أكثر من اهتمامه بالقضايا الاجتماعية، لأنه كان يراها تابعة للحكم، والثنائية القطبية بين المعسكرين الشيوعي والليبرالي كانت تضيق حركة المنظمات الدولية، لأن هذه المنظمات لم تكن ذات برنامج موحد ولم تكن قادرة على اختراق جميع المجتمعات بسبب التنافس بين المشروعين الشيوعي والليبرالي؛ فكانت المجتمعات العربية والإسلامية تتحرك بين هذين القطبين مع هامش مسموح به.
لكن ابتداء من تسعينيات القرن الماضي بعد انهيار الشيوعية وظهور الأحادية القطبية أصبحت المنظمات الدولية ـ وهي في جملتها أوروبية وأمريكية ـ ذات حرية واسعة في الحركة، وأعلن الغرب انتصار القيم الليبرالية في العالم؛ أما اليسار سواء في المغرب أو في البلدان العربية الأخرى ففك الارتباط بين المشروع السياسي والمشروع الاجتماعي، ولم يعد الحكم مطلبا، فتحول إلى الرهان على حقوق الإنسان وحرية المرأة، وليس أدل على هذا من أن التيارات النسائية خرجت من رحم اليسار، إذ لم يعد تحرر المرأة مرتبطا بالكفاح الطبقي والصراع ضد الهيمنة البورجوازية، وإنما أصبح مرتبطا بالكفاح ضد التشريعات الموجودة والصراع ضد الهيمنة الذكورية. لذلك سوف يشهد المغرب أول ظهور علني للحركات النسائية في بداية التسعينيات بعد سقوط المعسكر الشرقي، وأول تجربة لتعديل مدونة الأحوال الشخصية عام 1993.
ولا تفوتني هنا إشارة مهمة، وهي أن البلدان التي قادت المشروع الاشتراكي الشيوعي في العالم، وهي روسيا والصين، هي ذاتها التي تخوض اليوم معركة ضد القيم الليبرالية الغربية، وعلى رأسها القيم الأسرية، إذ تحارب روسيا والصين الشذوذ مثلا على عكس الحكومات الغربية، وتدعم إنشاء الأسرة الطبيعية وتشجع على الزواج، بينما نلاحظ أن اليسار على صعيد هذه القيم انفصل عن البلدان التي قادت المشروع الشيوعي والتحق بالقيم الليبرالية الغربية، وهي مفارقة تبدو غريبة، لكنها مفهومة بالنظر إلى جملة من الأسباب التي لا يتحمل هذا المقال التفصيل في تعقيداتها.
كرست الليبرالية الغربية الحديثة مقولة الحرية في مواجهة النظام، ومن ثمة فإن حرية المرأة ترتبط بالخروج عن النظام الأسري الذي يمثل قيدا تقليديا يجب الخلاص منه. وطالما أن جميع الأديان أضفت القداسة على الأسرة، وأن الفكر الليبرالي نشأ من داخل الفلسفة العلمانية التي استبعدت الدين من النظام السياسي، كان لا بد من استبعاده من النظام الاجتماعي أيضا. ولأن النظام الأسري هو النواة الرئيسية في النظام الاجتماعي التقليدي المرتبط بالدين كان لا بد من فصله عن الدين، فلم تعد الأسرة مقدسة، وإنما الفرد هو من صار مقدسا، ومن هنا مُنحت للأفراد حرية الاختيار بين مختلف أنواع الارتباط بين الجنسين، بما فيها حرية الارتباط بفرد من جنسه.
انتقلت هذه الفكرة إلى المجتمعات العربية فأصبحت جزءا من خطاب التيار العلماني وفي داخله الحركات النسائية، وصار المطلب الرئيس هو تغيير مدونة الأسرة وفقا لما تنص عليه مواثيق المنظمات الدولية. ولست بحاجة إلى القول إن هذه المواثيق مستمدة من الفلسفة الليبرالية في ما يتعلق بالموقف من النظام الأسري كما أشرت إليه أعلاه، فهذا أمر يُفترض أنه معروف.
بيد أن الذي حصل في المجتمعات الغربية أن الحداثة لم تستطع أن تقدم البديل عن النموذج الأسري التقليدي، إذ فشلت فشلا ذريعا في الحفاظ على الأسرة، فأصبحت هناك قاعدة ثابتة، وهي أنه كلما خضع قانون الأسرة للتعديل أصبحت الأسرة أكثر عرضة للتهديد من السابق، وتعرض المجتمع للتفكك. وإذا أخذنا فرنسا مثالا ـ وهي المثل الأعلى للحركات النسائية بالمغرب ـ وجدنا أن “قانون الأسرة” الفرنسي تم تعديله عشرات المرات، وظهرت أنماط مختلفة من الأسر: الأسرة ذات الأب الواحد أو الأم الواحدة (الأسرة الأحادية)، الزواج بين شخصين من جنسين أو مختلفين أو من جنس واحد (الباكس)، المعاشرة (حياة اختيارية بين شخصين دون عقد)، إضافة إلى الزواج الطبيعي التقليدي بين ذكر وأنثى، أقدم هذه الأنماط.
جميع هذه الأنماط ظهرت متأخرة، وآخرها الذي هو “الباكس” الذي ظهر عام 1990 في فرنسا. لكن خلال أقل من ثلاثة عقود أثبتت هذه الأنماط فشلها جميعا، بينما أثبت الزواج الطبيعي قدرته على البقاء في مجتمعات علمانية حاربت كل ما هو تقليدي، مع أنه أقدم تلك الأنماط تاريخيا ويرجع عمره إلى قرون قبل الميلاد. وقد مكنت هذه الأنماط المختلفة من “الزواج” الأفراد من ممارسة حرياتهم الفردية، لكنها بالمقابل خلقت أزمات داخل تلك المجتمعات، لأن حريات الأفراد وضعت على أساس عدم مراعاة المجتمع، وهو ما أدى إلى التراجع الديمغرافي الكبير الذي تعيشه أوروبا اليوم بشكل دفع العديد من الحكومات إلى دق ناقوس الخطر من قرب أفول تلك المجتمعات سكانيا وتهديد الشيخوخة، كالحكومة الفرنسية التي أعلن رئيسها مانويل ماكرون قبل أسابيع عن تدابير جديدة لتشجيع الزواج والإنجاب، كان من ضمنها رفع التعويضات الممنوحة للأم أثناء الولادة، بل وتمكين الزوج نفسه من عطلة الإنجاب لأول مرة؛ إذ أظهر آخر تقرير للمعهد الوطني الفرنسي للإحصاء والدراسات الاقتصادية أن نسبة الخصوبة في فرنسا تراجعت إلى أدنى مستوى لها منذ قرن.
لقد أدركت الحكومات الأوروبية أن الحل الوحيد لإنقاذ مجتمعاتها من الأفول هو العودة إلى تقديس الأسرة الطبيعية التقليدية، التي كانت عدو الحداثة، لكن المشكلة التي تواجهها حاليا هي كيفية إقناع المواطنين بالأسرة التقليدية في مجتمعات تشربت القيم العلمانية والحريات الفردية.
هذه هي القضية الصعبة، لأن الدفاع عن الأسرة التقليدية كضرورة لإنقاذ المجتمع لا يمكن أن يحصل في إطار سيادة القيم العلمانية والحداثية لدى الأفراد، كونهما على طرفي نقيض. ومن هنا ظهرت دراسات وبحوث علمية تدافع عن أطروحة العلاقة بين الدين والأسرة، وتنادي بالعودة إلى القيم الدينية على صعيد الأسرة مقابل تقديس القيم العلمانية على صعيد الدولة والمجتمع؛ إذ لا ينكر أحد أن الحداثة جلبت لأوروبا طرقا جديدة في تدبير الحكم والمواطنة والديمقراطية، لكنها فشلت في إدارة حياة الأفراد. وتؤكد هذه البحوث على أهمية الجوانب الأخلاقية والإنسانية في الارتباط الأسري أكثر من الجوانب القانونية، لأن الأسرة لا تقوم على القوانين الزاجرة، بل على القيم التي تسودها، وترتبط بالعاطفة والمودة والتجاوب.
وتفيدنا الدراسات التي أنجزها الباحث الاجتماعي الفرنسي المعروف إيمانويل طود، وهو أحد كبار علماء الاجتماع في فرنسا، بأن معدلات الخصوبة في المجتمعات الأوروبية تنتشر أكثر بين المتدينين، وأبرز في كتابه “أين نحن؟Où en sommes-nous ? أن الإيمان بقيم الأسرة والإنجاب ينتشر أكثر بين الكاثوليك والبروتستانت أكثر مما يوجد لدى العلمانيين أو الملحدين.
وإذا كانت أوروبا تتوجس من النمو السكاني في القارة الإفريقية وتراها أكثر القارات سكانا في أفق عام 2050 فذلك يرجع بالأساس إلى صمود القيم التقليدية في المجتمعات الإفريقية، مقابل تحلل هذه القيم في المجتمعات الأوروبية. وتبين الدراسات السوسيولوجية أن المسلمين في الاتحاد السوفياتي كانوا الأكثر خصوبة بين الأقليات الأخرى، لأنهم لم يخضعوا لثقافة الإلحاد التي كانت تعممها الدولة عبر المناهج التعليمية. كما تظهر الإحصائيات في المجتمعات الأوروبية أن المهاجرين المسلمين هم الأكثر إنجابا لأنهم يؤمنون بالنظام الأسري.
فإذن، العلاقة بين مدونة الأسرة والإسلام ليست مجرد علاقة بين نظام أسري ونظام تشريعي، بل هي أيضا علاقة بين نظام أسري ونظام اجتماعي ونظام سياسي، فأي مس بثابت من الثوابت الشرعية التي تنظم الأسرة المسلمة سوف يؤدي بطريقة موضوعية إلى القضاء على النظام الاجتماعي الذي ينتج عنه تهديد النظام السياسي؛ فالمدونة التي لا تعالج القضايا المحورية في المجتمع، ولا تقدم حلولا لظاهرة الطلاق والعنوسة وتراجع الخصوبة، إنما هي مدونة خالية من الأهداف، قد ترضي المنظمات الدولية والحركات النسائية، لكنها تقضي على النظام الاجتماعي في أفق عشرين سنة فقط من تطبيقها، لأن هذه المدة هي مرحلة تجدد الجيل.
0 تعليق