لغتيري يحكي عن زيارة "مصر المحبوبة" .. شغف بعبق الأدب والتاريخ

هسبيرس 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

يرى الكاتب والأديب المغربي مصطفى لغتيري أن زيارته إلى مصر لم تكن مجرد رحلة سياحية؛ بل تحقيقا لحلم طويل ارتبط بعشقه للأدب والفن المصري، لافتا إلى أن “وعيه الثقافي تشكل من خلال أعمال نجيب محفوظ وإحسان عبد القدوس وطه حسين، إضافة إلى تأثره بالموسيقى والسينما المصرية التي كانت جزءا من وجدانه”.

وسجل لغتيري، في مقال توصلت به هسبريس بعنوان “مصر التي أحببتها”، أنه “اكتشف خلال زيارته إلى الإسكندرية والقاهرة عمق التاريخ المصري؛ من أهرامات الجيزة إلى قلعة قيتباي وخان الخليلي، حيث تجلت الحضارة المصرية في أبهى صورها”، مشيرا إلى أن “معرض القاهرة الدولي للكتاب أتاح فرصة لتوقيع روايته الجديدة، ولقاء عدد من الأدباء والمثقفين؛ مما عزز لديه الشعور بقوة الروابط الثقافية بين المغرب ومصر”.

وخلص الكاتب المغربي إلى أن مصر ليست مجرد مكان؛ بل تجربة ثقافية وروحية متكاملة، تركت في نفسه أثرا عميقا، ليعود إلى المغرب محملا بذكريات لا تُنسى عن أرض الكنانة.

نص المقال:

لن أنكر أبدا، ولا ينبغي لي ذلك، أن زيارتي إلى مصر، أرض الكنانة، كانت حلما مقيما في الذات، داعب وجداني منذ زمن بعيد. هناك تبرعم خلسة ورعيته بصمت وثبات حتى كبر وشب عن الطوق، كيف لا؟ وهي أرض الفكر والأدب والحضارة، والمسلسلات والأفلام، وأغاني أم كلثوم وعبد الحليم حافظ وسيد مكاوي، التي ارتشفت نسغ ثقافتها قطرة قطرة ولم أشعر أبدا بأي نوع من الملل وأنا أقوم بذلك.

شرعت في لعبتي الخفية هذه منذ نعومة أظافري عبر التهامي لقصص محمد عطية الأبراشي، وفي شبابي نهلت من إبداعها القصصي على أيدي كل محمد عبد الحليم عبد الله وإحسان عبد القدوس، فاتسعت أحلامي وتمدد خيالي، وتشعب فكري فيما بعد عبر كتابات سلامة موسى وطه حسين وعباس محمود العقاد، وحين أصبحت للذات أبعاد أخرى تعلمت تقنيات الكتابة الروائية على يد أبي الرواية العربية نجيب محفوظ، وتفاصيل الكتابة القصصية من روادها يحيى حقي ومحمود تيمور ويحيى الطاهر عبد الله وغيرهم.

وقد تحقق الحلم أخيرا على يد الجمعية الوطنية لأساتذة المغرب، التي نظمت رحلة جميلة إلى هذا البلد الأجمل، بعدما جمعت بين أحضانها لفيفا من المشاركات والمشاركين، يمثلون نخبة من المثقفين والتربويين والجمعويين، فكان اللقاء والوصال في أبهى صوره، فما خاب الظن، وما كان ينبغي له ذلك.

في أول نزول لنا بمطار برج العرب، كان الاستقبال حارا من لدن شاب لطيف يدعى مصطفى. وكانت أول ملاحظة سجلناها، وقد نزلت على قلوبنا بردا وسلاما، بأننا بحق بين أحضان بلادنا الثاني، حتى رجال الشرطة كانوا لنا عونا وسندا في أولى خطواتنا على ثرى مصر الطاهر، لننتقل بعد ذلك إلى فندقنا في مدينة الإسكندرية، التي طالما تردد على مسامعنا لقبها الأثير “عروسة البحر الأبيض المتوسط”. وحين شرعنا في اكتشاف تفاصيل المدينة، كانت المآثر التاريخية وجهتنا، فانطلقنا إليها رفقة “دليلنا” الذي جاد علينا بمعلومات قيمة حول مصر عموما، والإسكندرية خصوصا. ومن هذه المعلومات أن اسم مصر القبطي يعني الأرض السمراء، وأن الحضارة الفرعونية على أرضها دامت 3000 سنة، وشملت تحديدا الفيوم والأقصر. أما الإسكندرية، فبناها الإسكندر الأكبر بعد انهيار الدولة الفرعونية، وأخبرنا كذلك أن مقبرة الإسكندر الأكبر موجودة في الإسكندرية؛ لكنها لم تكتشف بعد. ثم حدثنا عن بطليموس، أحد القادة العسكريين لدى الإسكندر الأكبر. ولم يكن في حقيقة الأمر سوى والد كليوبترا؛ وهو الاسم الذي يعني بالعربية الفتاة المفضلة عند أبيها.

وقد التقت هذه الفتاة المدللة بيوليوس قيصر، عبر حكاية طريفة، بعد أن قدمت له ملفوفة داخل سجادة، فجادت قريحته حينذاك بتشبيه بليغ، إذ قارنها بانفتاح صدفة لالتقاط جوهرة ثمينة من داخلها، وهذه الجوهرة لم تكن غير كليوباترا، هذه الملكة التي جمعت حياتها ما بين المجد والمأساة في أقصى معانيهما، وخاصة نهايتها المأساوية وانتحارها باستعمال حية الكوبرى، حدث ذلك حين تأكدت من انتحار حبيبها أنطونيو، ويعد موتها بهذه الطريقة معبرا، وذا رمزية كبيرة، إذ إن الأفعى التي قتلتها تتجدد دوما عبر سلخ جلدها، فكانت بذلك كليوباترا رمزا للتجدد والانبعاث بعد الموت.

أخبرنا المرشد السياحي كذلك بأن الإسكندرية قد ظلت عاصمة لمصر لمدة ألف سنة، حتى أن مرقص كتب إنجيله فيها، وقد شهدت إحدى الفترات الكالحة في التاريخ المسيحي، التي تميزت بالاضطهاد الديني، حين قتل فيها الرومان آلاف المسيحيين المصريين المخالفين لعقيدة الرومان.

وكانت زيارتنا لعمود السواري إحدى اللحظات المهمة في رحلتنا، وهو عمود يؤرخ للنفاق السياسي في أرذل تعابيره، إذ إنه اعتبر هدية من حاكم الإسكندرية للإمبراطور الروماني رغم التنكيل الذي قام به في حق المواطنين المصريين.. ثم زرنا بعد ذلك المسرح اليوناني، الذي اكتشف صدفة عام 1960، وهو يعبر عن العمق الثقافي لهذه الحاضرة المتوسطية، التي استهوانا التجول فيها، فاستوقفتنا قلعة قيتباي المتاخمة للشاطئ، ثم مكتبة الإسكندرية الشهيرة، فكحلنا عيوننا برؤية أسوارها، دون أن تتاح لنا فرصة الولوج إليها؛ لأننا وصلناها إليها في وقت متأخر ذلك اليوم. وفي اليوم التالي، استبد مسجد المرسي أبي العباس بكثير من وقتنا، وقد منح زيارتنا بعدا روحيا لا يخفى على أحد.

أما في القاهرة، فلقاؤنا بأهراماتها يحتاج منا كتابا كاملا، أهرام الجيزة ليست مجرد حجارة مرصوصة بنظام بديع بل هي كتاب مفتوح لقراءة التاريخ وأخذ العبرة منه، وهي عبارة عن ضريح كبير للفرعون يتضمن كثيرا من السراديب والتفاصيل المتشعبة. أما أبو الهول، وهو تمثال الملك خوفو، الذي استحق لقب حارس الأهرامات، والذي نصفه إنسان يدل على الحكمة ونصفه حيوان يدل على القوة، فحكايته يجب أن تكتب بماء الذهب، وأتمنى أن أعطيه حقه في ما سيأتي من أيام.

وبما أن زيارتي لمصر صادفت افتتاح معرض القاهرة الدولي للكتاب، فقد كانت المناسبة سانحة لتوقيع روايتي الجديدة “زوجة الملوك الثلاثة” الصادرة عن دار روافد بالقاهرة؛ وهي الرواية التي تحتفي بتاريخ المغرب في القرن الثاني عشر الميلادي، في شخص امرأة بصمت بعنق مرحلة الدولة المرابطية، ويتعلق الأمر بزينب النفزاوي.

بعد ذلك كانت زيارتنا للقاهرة المعز، وهي المدينة التاريخية القديمة، فاستمتعنا بالنظر إلى معالمها الجميلة، فتجولنا في خان الخليلي ودخلنا مقام الإمام الحسين والسيدة زينب.. ولم ننس زيارة مقهى أم كلثوم، تلك الأسطورة التي لن تتكرر، والتي جعلتنا نعشق الطرب العربي الأصيل.

في اليوم الموالي، قصدنا مدينة شرم الشيخ عبر قناة السويس الرابطة بين البحرين، المتوسط والأحمر، والتي تعتبر كذلك بوابة صحراء سيناء. ونحن نعبرها عبر نفق الشهيد كان لا بد أن تحضر في الذهن قصة عبور النبي موسى والعبرانيين، فتمنينا عبورا أسلس وآمن منه، وذلكما كان فعلا، إذ تيسر العبور عبر النفق الذي كان لمثابة عصا موسى، بعدها عبرنا طريقا طويلا يخترق الصحراء لنصل إلى مدينة الأحلام شرم الشيخ، التي تعد بحق مدينة سياحية بامتياز، تقدم للزائر نسخا محكمة الصنع من حضارات الأمم وتاريخها، فيتجاور التاريخ المصري بالتاريخ التركي بتجليات الحضارة اليونانية، ببعض ملامح التاريخ الأمريكي والأوروبي، فسعدنا بهذا التمازج المبهر. وكانت جولتنا في البحر الأحمر والاسمتاع بالشعب المرجانية وكائناتها البحرية، فتحققت لنا ذروة السعادة بهذه الرحلة، وتضاعف الفرح بعد الاستمتاع بالسباحة في هذا الوقت من السنة، في الشاطئ المكتظ بالسياح الروس، فكانت المتعة مضاعفة بحق.

نادتنا القاهرة مرة أخرى فكان نصيب الثقافة، بمعناها الأكاديمي أكبر لقد حظيت هذه المرة بالتفاتة طيبة ستظل راسخة في الذهن والذاكرة؛ فبتكليف من الدكتور علاء عبد الهادي، رئيس اتحاد كتاب مصر واتحاد الكتاب العرب، الذي غاب عن القاهرة ذلك اليوم بسبب التزامات سابقة، تم استقبالي في مقر نقابة اتحاد الكتاب من لدن السيد حسن نائب رئيس النقابة العامة لاتحاد كتاب مصر أمين الشؤون المالية والإدارية للاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب برفقة نجوى عبد العال شاعرة وعضو مجلس الإدارة، والفنانة والناقدة إيناس جلال الدين.

في هذه الجلسة الجميلة عبر السيد حسن عن حبه للثقافة المغربية واحترامه الكبير للمثقفين المغاربة، كما تم التداول حول أوضاع اتحاد كتاب المغرب الحالية وتمنى الجميع أن يتجاوز اتحادنا أزمته قريبا، ويستطيع عقد مؤتمر المؤجل، حتى يعود إلى ممارسة دوره الإشعاعي الريادي المألوف.

من جانبي، عبرت للسيد حسن ومرافقتيه عن امتناني وشكري للبادرة الطيبة، التي أثلجت صدري. كما أشدت بالدور الريادي للثقافة المصرية، باعتبارها قاطرة للثقافة والإبداع العربيين. كما بلغتهم تحيات إخوانهم الأدباء والكتاب المغاربة، الذين يكنون كل التقدير والاحترام لمصر ومثقفيها وشعبها.

وإذا كان القول المأثور “اللحظات الجميلة تمر بسرعة” فإنها تصدق بحق على هذه الرحلة التي قادتنا في نهايتها إلى مطار برج العرب، ومنه حلقت بنا الطائرة في طريق العودة نحو مطار محمد الخامس بالدار البيضاء، وقد بقي في أنفسنا كثير من مصر العزيزة.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق