رجحت صحيفة "ذا هيرالد" الاسكتلندية أن تصريحات وخطط الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وسياساته منذ تولى السلطة في 20 يناير الماضي، أفادت القضية الفلسطينية أكثر من ضرها، فقد أجبرت العالم على إعادة التفكير في حقوق الفلسطينيين في غزة وما وراء غزة.
ولفتت الصحيفة إلى أن أي شخص يبحث عن تجسيد أو ربما تحذير خيالي للكابوس الديستوبي الخبيث المتمثل في إدارة ترامب الثانية قد يفكر في فيلم "كنا هناك - Being There" من إنتاج العام 1979، والذي يتسلل فيه بستاني غبي ليحظى بثقة رئيس الولايات المتحدة، ويصبح بين ليلة وضحاها أشهر رجل أعمال ذي قوة ونفوذ، ولديه سلطة متميزة للغاية داخل أروقة واشنطن وفي دهاليز السياسة، كما يصبح لديه قوة مالية كبيرة ومتميزة، ويصبح ذا ثقة كبيرة بين كبار صناع السياسات، ومستشار لديهم، له كلمته المسموعة، وكان الفيلم الأمريكي الشهير من إخراج هال آشبي وقصة وسيناريو كل من جيرزي كوزينسكي، وروبرت سي. جونز، وبطولة بيتر سيلرز، وشيرلي ماكلين، وميلفين دوجلاس، وجاك واردين، وريتشارد ديسارت، وريتشارد بيزهارت
وفي الفيلم، الذي مثّله بيتر سيلرز ببراعة، والذي تبين أنه آخر أفلامه، يُخطئ الكثيرون في اعتباره الحكيم السياسي صاحب البصيرة الذي يدعى تشونسي جاردينر، الذي تُستخدم أقواله المأثورة المبتذلة عن نمو النباتات ومرور الفصول كأساس فكري للسياسة الأمريكية، وفي الفيلم أيضًا، ومع اقتراب الرئيس من نهاية ولايته الثانية في المنصب، يُنظَر إلى تشونسي البستاني التعيس باعتباره خليفته في البيت الأبيض، وقد يتطلع البعض إلى رواية فيليب روث، المؤامرة ضد أمريكا، التي تتخيل تاريخًا بديلًا حيث يتم إقصاء فرانكلين د. روزفلت من منصبه في عام 1940 من قبل المشاهير الشعبويين وكارهي الأجانب، وعلى رأسهم الطيار الأمريكي الشهير تشارلز ليندبيرج.
ولفت الصحفي الاسكتلندي، كارلوس ألبا، إلى انحدار تدريجي للثقافة الأمريكية، وبطبيعة الحال، لا تعكس الروايات الواقع بشكل كامل، وبالتالي فإن ترامب إما أن يكون نسخة سيئة من البستاني "تشونسي جاردينر"، أو للطيار الأمريكي ليندبيرج المؤيد لإسرائيل، وكانت إحدى أكثر الصور المزعجة في عهد ترامب هي تدخله الأخير في شؤون الشرق الأوسط، حيث اقترح التطهير العرقي الشامل لمليوني فلسطيني من غزة، لإفساح المجال لمنتجع سياحي على شاطئ البحر للأثرياء.
وأضاف ألبا: "كان الأمر الأكثر إثارة للاشمئزاز من افتقاره الواضح إلى الوعي الذاتي هو رؤية بنيامين نتنياهو المنتفض من سعادته بما يسمع من تصريحات رئيس الولايات المتحدة، فلم يتوقع نتنياهو أن يكون ترامب أكثر كرمًا، وفي حين لا يعتقد أحد غير ترامب حقًا أن قطاع غزة الذي دمرته آلة الحرب العدوان للاحتلال سوف تتحول، أو يمكن أن تتحول، إلى فلوريدا متأرجحة في قلب العالم العربي، فقد رصد نتنياهو بوضوح فرصة للعب دور مشابه للبستاني الغبي.
من الواضح أن نتنياهو يعتقد أنه من خلال التطرق إلى نقطة سخيفة حول مصير غزة، يمكنه تحويل اتجاه الرأي المعتدل بعيدًا عن هدف حل الدولتين نحو قبول الوضع الراهن على الأقل.
ولكن المشكلة في رفع سقف الرهانات الإسرائيلية بهذه الطريقة في هذه القضية الأكثر إثارة للجدال - حيث تراجعت حماس بالفعل عن وقف إطلاق النار في أعقاب تعليقات ترامب - هي أنها أجبرت الآن الجميع في التيار الرئيسي على تبني وجهة نظر مختلفة وإعادة التفكير في شعب فلسطين الذي له حقوق تاريخية في أرضه.
ومن الخطأ، مجرد الجرأة على اقتراح الإخلاء القسري للعديد من السكان من قطعة أرض سكنوها لقرون - وكل ما عدا أقلية متطرفة في الجناح اليميني من السياسة الإسرائيلية يقترح ذلك – ما يخلق التزامًا على كافة البشر بسؤال أنفسنا لماذا.
وحتى الآن كان من المناسب للحكومة اليمينية المتطرفة تشجيع فكرة الإخلاء وتعزيز فكرة خاطئة ومريبة تروج لأن تاريخ العنف في المنطقة بدأ في السابع من أكتوبر 2023، وهي مغالطة كبيرة وخبيثة.
ومن ذلك التاريخ، ردت إسرائيل على طوفان الأقصى باستهداف معقل حماس في غزة بعملية عسكرية لا هوادة فيها أودت حتى الآن بحياة 47540 فلسطينيًا وقعوا ضحايا نيران العدو.
ولكن أي شخص لديه حتى فهم متواضع للمنطقة يعرف أن تاريخ العنف هناك يسبق ذلك بعدة عقود، أي قبل وقت طويل من إنشاء دولة إسرائيل في عام 1948، ثم كانت الجماعات الصهيونية، بما في ذلك الهاجاناه، وإرجون، وعصابة شتيرن (ليحي)، هي التي استخدمت تكتيكات إرهابية ضد الانتداب البريطاني والعرب الفلسطينيين.
وفي أكتوبر 1945، بدأت الجماعات اليهودية السرية تمردًا دام عامين باستهداف السكك الحديدية الاستعمارية ومصافي النفط وقوارب الشرطة في فلسطين. وفي يوليو 1946، قصفت إرجون فندق الملك داود في القدس، مما أسفر عن مقتل 92 شخصًا.
وفي التاسع من إبريل 1948، ارتكب مسلحو الإرجون وليحي مذبحة دير ياسين، التي استشهد فيها أكثر من 250 فلسطينيًا، وتشوهت العديد من الجثث وقد أدى ذلك، إلى جانب مذابح أخرى في مدن مثل الصالحة واللد، إلى نكبة الفلسطينيين، والنزوح الجماعي.
وأضافت الصحيفة: "إن اقتراح ترامب يجبرنا على أن نسأل أنفسنا: إذا كان من الخطأ إخلاء مليوني فلسطيني من غزة اليوم، فهل كان من الخطأ أيضًا تهجير ما يصل إلى 800 ألف فلسطيني من مئات القرى في أعقاب الحرب الفلسطينية في عام 1948، والتي تأسست فيها دولة الاحتلال؟".
هل من الخطأ أيضًا أن تستخدم الحكومة الإسرائيلية منذ عام 1948 التشجير لاقتلاع مجتمعات فلسطينية لا حصر لها، والحد من نمو مجتمعات أخرى، وإخفاء أدلة على الوجود السابق للقرى المدمرة، ويبدو أن التهجير يتخذ أشكالًا مختلفة، بما في ذلك إخفاء أنقاض المستوطنات الفلسطينية المدمرة، وتطويق المجتمعات المتبقية بـ"محميات طبيعية" لمنع توسعها، وزراعة الأشجار في النقب لتهجير مجموعات البدو.
ولكن التشجير الذي ينفذه الاحتلال الإسرائيلي لا يقتصر على الحدود المعترف بها دوليًا لدولة الاحتلال، فقد التزمت أوراق السياسات الصادرة عن حكومة نتنياهو الائتلافية السابقة في عام 2022 صراحة بالتشجير في أجزاء من الضفة الغربية، والتي تعتبر على نطاق واسع أرضًا فلسطينية محتلة بشكل غير قانوني، وإذا كان من الخطأ تهجير مليوني فلسطيني من غزة، فكيف يكون من الصحيح أن تحتل إسرائيل بشكل غير قانوني الأراضي الفلسطينية منذ عام 1967، بما في ذلك الضفة الغربية، بما في ذلك القدس الشرقية، وكذلك غزة؟
وتم وصف سياسات الاحتلال في الضفة الغربية، وخاصة بناء وتوسيع المستوطنات، بأنها ضم بحكم الأمر الواقع، مما يعزز ادعاء عدم الشرعية بموجب المعايير القانونية الدولية.
وعلى الرغم من شدتها، فقد حظيت عدم شرعية الاحتلال باهتمام أقل من انتهاكات القانون الإنساني الدولي وقانون حقوق الإنسان أثناء الاحتلال، وأدانت الجمعية العامة للأمم المتحدة مرارا وتكرارا استمرار الاحتلال باعتباره غير قانوني، ويتفق علماء القانون عموما على أنه بغض النظر عن شرعيته الأولية، فإن الاحتلال أصبح غير قانوني مع مرور الوقت.
وإذا كان اقتراح ترامب يهدف إلى فتح الحوار حول حقوق الفلسطينيين في إسرائيل، إذن فليكن، ولكن لماذا نتوقف عند غزة؟ لماذا لا نوسع المناقشة لتشمل حقوقهم، وانتهاك حقوقهم، في مناطق أخرى وفي وقت سابق، قبل وقت طويل من السادس من أكتوبر 2023؟
0 تعليق