قال الأكاديمي والشاعر المغربي البارز محمد بنيس إنه كان سعيدا جدا يوم 7 أكتوبر 2023 “بحديث الجميع عن فلسطين”، بعدما لاحظ قبل ذلك بسنوات قليلة أن “اسم فلسطين لم يعد موجودا في الصحافة، واللقاءات، والخطاب العالمي”.
جاء هذا في لقاء نظمه المقهى الأدبي فاطمة المرنيسي، الذي ينظمه كرسي فاطمة المرنيسي، واستقبلته “سينما النهضة” ليل أمس الأربعاء في العاصمة الرباط، وسيّرته أستاذة علم الاجتماع ليلى بوعسرية، وكان موضوعه كتاب بنيس “فلسطين ذاكرة المقاومات” الذي جمع فيه مقتطفات تاريخية وأدبية وسياسية ومواقف وردودا تسهم في فهم القضية الفلسطينية، وتركيبها، وجذور التخطيط الصهيوني لاحتلالها؛ لأن “الوعي الثقافي يحولها من درجة الواجب إلى درجة الوعي الذاتي، وهو ربما أقوى ما يمكن أن نبحث عنه”.
ويرى بنيس أن “فلسطين” تعود إلى النقاش العالمي “بفضل أبنائها والمقاومة”، وأنه “لا حل للقضية الفلسطينية إلا عن طريق المقاومة، التي هي حركة وطنية، وحركة دفاع عن الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، ولا تؤيدها أي قوة كبرى في العالم؛ وهذا الأمر العظيم للشعب الفلسطيني”.
وذكر الأكاديمي ذاته في مستهل كلمته أن قضية فلسطين “موضوع لكل زمان، لا تحكمه الظرفية”، وتابع: “سنة 2017 بدأت أجمع ما كتبته عن فلسطين في كتاب، ولم أدر متى يتم، وهل سأتمّ جمعه. لكن في يوم إعلان فكرة ‘صفقة القرن’ بدا لي أن الوقت حان. أوقفت أشغالي كلها، وبدأت جمع ما كتبته، وبسرعة بدا لي أن الفكرة أكبر؛ فنصوصي وحدها لا تعنيني، بل تعنيني فكرة أوسع؛ فبادرت بالسفر إلى باريس، حيث توجد مكتبات، وكتب حديثة، وأصدقاء يمكن أن أفيد منهم في مراجع ومناقشات، وكانت رحلة مفيدة جدا. وبعض الكتب المهمة التي استفدت منها كثيرا صدرت في تلك الفترة؛ وبدأت أشتغل ضد الساعة”.
هكذا، “في نهاية نونبر 2020 كان الكتاب منتهيا، قبل بدء المشهد المسرحي الكبير لعملية التطبيع. ثم مع التطبيع أضفت النص الأخير في الكتاب (…) وجدت نفسي مضطرا للتذكير بالأساسي في العمل؛ وهو البعد الثقافي للقضية الفلسطينية والكفاح الفلسطيني عبر التاريخ، وكفاح مجموعة من الكتاب والأدباء والعلماء والمفكرين والفلاسفة في هذا الموضوع. وكنت ألاحظ دائما على حركة المساندة في المغرب والعالم العربي أنها تولي الاهتمام فقط لما هو تعبوي، وهذا جميل، من مظاهرات ودعم مالي، إلا أنها ينقصها المركز، وهو البعد الثقافي لهذه المأساة الكبرى، بما فيها الأصول الفكرية للصهيونية، والتعريف بها، وامتداداتها، وتفرعاتها”، يردف المتحدث ذاته، مشيرا إلى أن هذا الكتاب تولّد عن إحساس بأن “الذاكرة ضرورية، لكنها متعددة، ولكي يكون لها معنى لا بد أن تكون ذاكرة شاملة لما هو صوت جماعي من أجل فلسطين”.
وصدر المؤلَّف وفيه “احترام للكتاب المغاربة، فهم أول من وضعتهم: العروي، الخطيبي، إدمون عمران المليح. والكلمة الأولى للفلسطينيين، وسيد الكلام: محمود درويش؛ إذ كانت البداية بقصيدة له، والنهاية كذلك: (سأقطع هذا الطريق) وهي من أجمل قصائده. ووضعت من العرب اسما واحدا هو إلياس خوري، الذي أعتبره كاتبا فلسطينيا، وتعرفت عليه منذ السبعينيات، ولنا صداقة طويلة”، يورد بنيس، مستدركا: “لكن لم أرد جمع كل من تكلم، بل مسائل رمزية. وإعطاءُ الكلمة للمغاربة مهمٌّ، وإذا لم يعط المغربي مكانة رمزية لما كتبه المغاربة أعتبره خارج الزمن؛ ولهذا انتقيت أسماء من جميع المجالات الثقافية: الشعر، والرواية، والتاريخ، والفكر، والتربية، ومن الناحية النظرية. وكان إدوارد سعيد الأول في هذا المجال الفكري، تلاه آخرون كثر، منذ العشرينيات والثلاثينيات، في ذاكرة مشحونة”.
وتابع المتدخل: “نجد العديد من المنظمات لدعم فلسطين، وهذا ممتاز، لكن في المقابل لا نجد حركية ثقافية ومكتبة فلسطينية حقيقية، بينما سنة 1905 أو 1906 كانت الموسوعة الصهيونية موجودة؛ ونحن عالم بعيد جدا، رغم حاجتنا إلى استيعاب المأساة، وحتى لا نتسرع ونقول: غدا الحل، وغدا نصل إليه. بل أذكّر بمحمود درويش: ‘سأقطع هذا الطريق الطويلَ الطويلَ إلى آخِري… وإلى آخِرِهْ”.
وبعد استحضار رسالة فرويد التي ردّ فيها على نداءٍ صهيوني بعد “ثورة البراق”، التي ترجمها بنيس كاملة، علما أنها لم تكشف حتى مطلع التسعينيات، سجّل أنه بعد بحثه “وجد طبقات تحت التراب. ولا نظن أن داخل الصهيونية تيارات، وأن لها تاريخا”، وقدّم تقديرات متعددة كان الصدى الواسع فيها لما كتبه تيودور هرتزل، الذي “انتبهوا معه للمسألة الصهيونية؛ وهو النمساوي البورجوازي الصحافي، الذي حضر في فرنسا لا في النمسا”؛ قبل أن يجتمع المال مع الفكرة، وتتأسّس المنظمة العالمية للصهيونية، ثم تنتصر الأغلبية على رؤية هرتزل “للوطن القومي”، فتقرّر احتلال فلسطين.
هنا، وضّح بنيس أمرا: “عندما اقترح هرتزل جزءا من الأرجنتين وطنا قوميا، من بين ما اقترحه من دولٍ، قال إن الأرجنتين ستكون (وطنا قوميا)، وفلسطين ستبقى (وطنا تاريخيا)؛ لكن علينا التفريق بين ما هو تاريخي وما هو تلموذي ديني، ففلسطين وطن تلموذي لا وطن تاريخي. عكس ما قاله هيرتزل”.
كما نبه المتحدث انطلاقا مما يرد في مذكرات هرتزل وكتابات له إلى “أفكار ثابتة منذ قرن”، فقد تحدث عن “سد الحضارة في مقابل البربرية”، و”جلب الازدهار للعرب”؛ وهذه “كلها قيلت في القرن التاسع عشر، واشتغلت عليها مجموعة، لكن للأسف كانوا يعرفون ماذا يفعلون، وخططوا لزمن طويل. وهذه أسئلة طرحت على العالم العربي بعد النكبة، وبعد النكسة، ولست أدري ما سيقع من بعد، وهل سنستطيع طرح أسئلة أم لا”.
هرتزل هذا، رغم رفضه الوطن القومي في فلسطين، التي احتُلّت بعد وفاته، انصاع لضغط الصهاينة اليهود الروس والأوكرانيين، الأكثر عددا؛ وذهب إلى السلطان عبد الحمي، “لمفاوضته في إعطائه الأرض الفلسطينية تلبية للقوة الضاغطة عليه، لكن هذا الحاكم رفض هذا، رغم وعد دفع ديون الدولة العثمانية كاملة، مقابل جزء من فلسطين”، يواصل الأكاديمي ذاته، وزاد: “وهذه شهادة هيرتزل في مذكراته. أقول هذا لأن هناك كلاما الآن يخون عبد الحميد، بينما فيصل واتفاقيته مع وايزمان هي الخيانة؛ حيث أقر بوعد بلفور وحق الصهيونية في فلسطين”.
لماذا هذا التذكير؟ يجيب محمد بنيس: “إن البعد الثقافي يغني وعينا بالقضية الفلسطينية، ويجعل تضامننا مع الفلسطينيين أقوى؛ فنعي أننا لسنا في حالة عابرة. الثقافة تجعلك لا تنسى، لأنها تترسخ في وجدان الشخص، وتجعلك لا تتوقف عن القراءة بخصوص فلسطين. ومثال ذلك استمرار الكتابات حول القضية الفلسطينية، ولو تعرض كتابها لمشاكل كبرى في دولهم المسماة ديمقراطية، وهي لم تعد… هي دول صارت بدون قيم، أو صارت مضادة للقيم التي أنشأتها، وهذا موضوع آخر”؛ ثم أردف قائلا: “هذا العمل كتاب مفتوح، لا يجب أن يقرأه القارئ من بدايته إلى نهايته، يمكنك قراءة شيء ثم شيء آخر. علاقتي مع فلسطين بدأت بالمثقفين، بمحمود درويش وآخرين… والسياسيون جاءت العلاقة معهم عبر الثقافة بعد ذلك، مثل نقاشي مع ياسر عرفات حول المسألة الثقافية، وضرورتها في القضية الفلسطينية؛ وتحدثت معه دون حرج ولا هيبة، وقال لي: عندما أُحرِّر مترا واحدا من فلسطين سأهتم بالثقافة، فقلت له يا سعادة الرئيس الثقافة جزء من النضال لتذهَب أبعد”.
وعلّق الشاعر ذاته على هذه الفترة من القرن العشرين: “كنت أجد في اللقاء خارج المغرب حرية الكلام، فلا أشعر بحرج؛ أقول ما أفكر فيه بحرية، لأني لم أكن أطلب شيئا، إما أن تقبل ما أقول أو لا تقبل”.
وحول أهمية الكتابة قال صاحب “فلسطين ذاكرة المقاومات”: “ليس مهما أن يكون صدى لما نكتب، ما يهمني هو أن أكتب؛ لأنه إذا ظللنا نفكر فيمن سيقرأ لن نفعل شيئا. العالم العربي لا يقرأ، المغاربة لا يقرؤون. ما تعلمته في الحياة من العلاقة مع أشخاص في الكثير من مناطق العالم أن الحوار ممكن، وأن الحوار الفردي أقوى من الحوار الجماعي، فالحوار الفردي فيه نوع من الصدق، أما الحوار الجماعي فتتفق أطرافٌ، مثل ما نراه من اتفاق وقف الحرب الآن. لذلك لا أعطي دورا ضخما للكاتب والمثقف، بل نعرف أن مجهودنا له حدود، وأن تاريخنا صعب، ولكن أعرف أنني أعود لقراءة أعمال كانت موجودة قبل 1500 سنة، وأتغذى منها. وكفى”، وواصل: “أنا مؤمن بأن الأجيال التي أتت بعدنا ستكون لها ربما فرصة أكثر مما كان لنا، وأتمنى أن تكون أبعد منا في الرؤية، والتعبير، والاستمرار في المقاومة”.
0 تعليق