عن العلائقي في زمن المغرب، بجدل بحثي وأهمية كانت ندوة “الآخر في الكتابة التاريخية المغربية”، التي نظمها أخيرا، مختبر التاريخ والمجال والمجتمع والثقافة التابع للمعهد الجامعي للدراسات الإفريقية والأرومتوسطية والإبيروأمريكية بجامعة محمد الخامس. وهي الندوة التي بقدر ما توزعت على مساحة مقاربات لأحداث ونصوص وقضايا وأمكنة وأزمنة، بقدر ما أثثتها تجارب بحث عن الجامعة المغربية، وقد استحضرت ما هناك من منتج ونهج وسياق وتقاطعات وفق ورقة تأطيرية من جملة ما تأسست عليه، ما جاء عند بول ريكور “Paul Ricoeur ” حول الهُوية باعتبارها ثمرة تفاعل بين الأنا والغير، وما جاء عند كلود ليفي سترو “Clause Lévi-Strauss”، حول كون الهُويات الثقافية نتاج احتكاك مستمر بثقافات أخرى. وفي علاقة بهوية المغرب تضمنت ورقة الندوة هذه، ما هناك من ارتباط بالغير في تشَكلها عبر التاريخ، وما سمح به موقعه من تأثير وتأثر بشرق وجنوب وشمال وغرب. وأن ما حصل من علاقات مع الآخر من المهم حضوره في الدرس والبحث الأكاديمي، من أجل ما ينبغي لفائدة حاضر البلاد وتطلعاتها.
هكذا كانت ندوة الآخر في زمن المغرب بمحاور أربعة، الأول منها والموسوم بـ”الدراسات التاريخية حول المجال العربي والمجال العثماني التركي”، تناول فيه الأستاذ محمد حاتمي عن جامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس، قضية الآخر من خلال اليهود المغاربة وهويتهم، مشيرا لِما أسس لخصوصياتهم من إحالات وما هم عليه من ذاكرة جماعية وتعلق بأصول. مستحضرا ما هناك من هوية وتلاقح أجيال وتأصيل لزمن ومشترك مغربي، ومن عمل بحثي تاريخي جامعي رافع منذ فترة، فضلا عن تراكم معرفة ونصوص أغنت ما يطبع البلاد والعباد من روح تسامح وتعايش وقبول بالآخر. أما الأستاذ عبد الرحيم بنحادة عن جامعة محمد الخامس بالرباط، فقد تناول الآخر وكتابة تاريخ المغرب من خلال الزمن العثماني، مستحضرا ما هناك من لحظات بحث ومادة علمية وبدايات وحصيلة وتباينات. معرجا على أثر مؤرخين عن المغارب من قبيل ابن خلدون وأبو القاسم الزياني.. فضلا عما أحيط به الموضوع من قِبل الآخر المستعمر على هذه الخلفية وتلك، لافتا لما حصل من تحول لدى الباحثين المغاربة حول العلاقات المغربية العثمانية منذ ثمانينات القرن الماضي، من حيث ما هو جدل منهجي وأرشيف، وما حصل من مقاربات لتشابهات وتقاطعات تاريخية بين المجال المغربي والعثماني. وعن الآخر في تاريخ العثمانيين بعيون مغربية بين العلائقي والمقارباتي أيضا، توجهت مداخلة الأستاذ عبد الحي الخيلي عن جامعة محمد الخامس بالرباط، لِما طبع الكتابة التاريخية المغربية عن الأتراك من انتظام عبر مراحل، لاعتبارات عدة جمعت بين تطلعات بحث وكتابة تاريخية مغربية، فضلا عن قراءات على أساس ما هو ذات وتراكم وأثر كولونيالي وقضايا وتخصص وأرشيف.
وكان محور الندوة الثاني الموسوم بالدراسات التاريخية حول إفريقيا جنوب الصحراء، مساحة نقاش لجملة قضايا وإشكالات منها ما تعرض له الأستاذ خالد شكراوي عن جامعة محمد السادس متعددة التخصصات التقنية، متفاعلا مع قضية الكتابات التاريخية حول إفريقيا بالمغرب بين الذات والهُوية والأنا. مشيرا لموقع الأسطوغرافيا المغربية حول القارة الإفريقية ومنها المجال المغاربي، لافتا إلى أن البحث في هذا الإطار لم يرق إلى إنتاج مدارس متخصصة، معرجا على تجدد العناية بالمغرب الإفريقي منذ نهاية ثمانينات القرن الماضي، عبر أعمال بحث حول التراث والتاريخ المشترك، من خلال كلية الآداب بالرباط ومعهد الدراسات الإفريقية سابقا. مستحضرا ما طبع إنتاج هذه المرحلة من إعادة استقصاء المصادر والنصوص للبحث في تاريخ العلاقات بين ضفتي الصحراء، مع بروز توجهات باشرت البحث حول مضمون هذه التواريخ بعيدا عن منطق شمال جنوب. وضمن المحور نفسه، عن جامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء، قاربت الأستاذة بهيجة الشادلي في مداخلتها مسألة الدراسات التاريخية حول إفريقيا جنوب الصحراء مع جوانب من تأثيرات هذا المجال في المجتمع المغربي. لافتة لما حصل من اهتمام بحثي مغربي منذ ثمانينات القرن الماضي حول العلاقات المغربية الإفريقية في مستواها الروحي والسياسي والاقتصادي، مستحضرة ما كان من طرق تجارية جامعة على مر العصور بين المغرب وأقطار إفريقيا، وما كان عبر هذه السبل من أثر وتأثير وتأثر. وعن جامعة محمد الخامس بالرباط، استهدفت مداخلة الأستاذ أحمد شوكري الإجابة عن صورة المغرب في الكتابات التكرورية حتى مطلع القرن التاسع عشر. مشيرا لما اعتاد عليه المغرب من صورة على مرايا متوسطية أو مشرقية، وأنه قلما التفتت هذه الصورة للجنوب لرؤية نفسها من خلال مرايا الصحراء والساحل. لافتا لِما يطبع الهوية المغربية من أثر جغرافي وحضاري في بعده الإفريقي، مؤكدا أهمية ترسيخ هذا الحضور في الثقافة العالمة عن العصر الوسيط والحديث. وكانت ازدواجية الصورة في الوصف الرحلي لبلاد السودان الأنا والآخر، هو ما ناقشته الأستاذة زليخة بنرمضان عن جامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء. بحديثها عن رحلة ابن بطوطة 1304- 1377م، التي اعتبرتها إحدى المصادر التي انتشلت تاريخ السودان الغربي خلال القرن الرابع عشر الميلادي من سمة الحكي إلى التاريخ المدوّن. لافتة إلى أن رحلة ابن بطوطة جاءت في سياق تاريخي، تمثّل في ما شهدته ضفة الصحراء الكبرى الشمالية، من تحوّلات عدة مقابل ما كانت عليه إمبراطورية مالي جنوبها من استقرار وسلم وازدهار. مشيرة لِما تفردت به هذه الرحلة كتجربة سفريّة لحظيّة من خلال الجغرافيا في بعدها الطبيعيّ والبشري، وكذا الذات بكل مكوناتها النفسيّة والثقافيّة.
وحول الدراسات التاريخية والمجال الأوروبي كمحور ثالث لندوة الآخر والتاريخ، توجهت مداخلة الأستاذ عبد الكريم مدون عن جامعة ابن زهر بأكادير، لكيفية رؤية الآخر للنص المقدس في الإسلام، مستهدفة تتبع ما كتب عنه لدى الغرب من خلال كتابين صدرا على التوالي 2019 و2022، ويتعلق الأمر بقرآن المؤرخين وتاريخ القرآن، ما تم التطرق إليه عبر مداخل ثلاث: أولا، الغرب والإسلام. ثانيا، الدين والنص المقدس. ثالثا، قراءة في تاريخ المؤرخين والقرآن. وعن جامعة محمد الخامس بالرباط، ومن خلال مداخلة بعنوان “صورة المسيحي من خلال رسائل الحاج محمد بن عبد الجليل إلى الراهب كليمان إتيان “Clément Etienne” 1925-1928. تحدث الأستاذ جامع بيضا عن كتاب صدر عن مؤسسة أرشيف المغرب 2022 للباحث مرغيش، وهو عبارة عن مصنف لمراسلات متبادلة بين شاب مغربي هو الحاج محمد بن عبد الجليل وراهب فرنسي هو كليمان إتيان، الذي كان حينئذ مديرا لثانوية شارل دو فوكو بمدينة الرباط. مشيرا إلى أن هذه المراسلات بحوالي 120 وثيقة وتغطي الفترة ما بين 1925 و1928، وأنها تعكس تطورا في تصور الشاب المسلم المغربي للآخر المسيحي. وضمن سياق آخر، تعرض الأستاذ البشير تامر عن جامعة محمد الخامس، لـ “الأنا والآخر من خلال تدريس الظاهرة الاستعمارية”. معتبرا هذه الأخيرة من المداخل التي لم تتم دراستها من زاوية الأنا والآخر.
وأنها تندرج ضمن ما يسمى “بالتاريخ الساخن”، المغذي للحس الوطني والذاكرة الجماعية. مستهدفا مقاربة الإشكالية وفق منهج مقارن، يحلل خطاب المناهج الدراسية وأدوات تدريس تاريخ الظاهرة. وحول صورة أوروبا في كتب التاريخ المدرسية المغربية، ناقش الأستاذ مصطفى حسني الادريسي عن جامعة محمد الخامس بالرباط، الإيجابي والسلبي من السمات التي تلتصق بصورة أوروبا في خطاب المغرب المدرسي التاريخي، مشيرا إلى أن الصورة التي تنبثق من تاريخ أوروبا في هذه الكتب المدرسية هي صورة متناقضة، تظهر أوروبا نموذجا مقبولا في سياقات معينة وغير مقبول في سياقات أخرى. ذلك أنه عندما يتعلق الأمر بتاريخ أوروبا المدرَّس في حد ذاته، غالبًا ما تكون الصورة إيجابية. بل فرصة لتسليط الضوء على مساهمات الحضارتين اليونانية والرومانية، وحضارة عصر النهضة والأنوار ثم التصنيع والتحديث. ذلك أن الكتب المدرسية هنا تحمل خطابًا مؤيدًا للحداثة والديمقراطية، وأن تاريخ أوروبا هو المدعو لإبراز هذه القيم. بالمقابل حول علاقات أوروبا بـ”الآخر”، فالصورة بنوع من الاختلاف إذ تكون في بعض الأحيان سلبيًة جدا. بحيث الدروس التي تتناول توسع أوروبا في العالم، سواء المتعلقة بالتاريخ القديم (الرومان، الوندال..) أو العصور الوسطى (الحروب الصليبية)، أو بالتاريخ الحديث (“الاكتشافات الجغرافية”) أو المعاصر (التدخلات الأوروبية في الإمبراطورية العثمانية أو في غرب إفريقيا في القرن 19 و20 م). تقدم أوروبا كمسؤولة عن تبديد ثروات وإبطاء تطور مجتمعات بل إبادتها أحيانا، مشيرا لِما أضحت عليه الصورة من خجل في الكتب المدرسية الحالية مقارنة مع التي لدى الجيلين الأول والثاني. أما الأستاذة فتيحة المسعودي فقد توجهت مداخلتها لِما هو رؤى مغربية حول حداثة أوروبا من خلال الرحلات السفارية المغربية. متوقفة على نماذج منذ القرن الثامن عشر حتى مطلع الماضي، باعتبارها وعاء أدبيا رسم صورا عن الآخر الأوروبي وعالمه المغايِر. وقد اهتمت هذه الرحلات بجميع مناحي حياة الأوروبيين، بعيون وتمثلات ومرجعيات الرحالة المغربي. مستهدفة إشكالية حِفظ الهُوية المغربية وتتبع ما هناك من أشكال وعي حمله الرحالة المغاربة أثناء رحلاتهم، وكذا إدراكِ ما اتخذ من مواقفِ تجاه الأوروبي وثقافته، وبالتالي رصد ما انطبع في ذاكرتهم من صورة بين مشاهدة وإدراك، ومن درجة وعي بالذات والتفوق الأوروبي انطلاقا من مقارناتهم بين السائد هنا وهناك.
وحول المغرب والآخر البرتغالي عن جامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء، ناقش الأستاذ عثمان المنصوري توجهات الكتابات التاريخية المرتبطة بالمغرب، مستحضرا حدث معركة وادي المخازن. مشيرا لِما يجمع المغرب بالبرتغال من محطات كانت مساحة دراسات برتغالية اعتمدت أرصدة أرشيف هام، ولِما طبع وانصب عليه اهتمام هؤلاء أيضا من قضايا، جمعت بين الوجود المغربي وآثاره بالأندلس، والتوسع البرتغالي خلال القرن الخامس عشر والسادس عشر الذي كانت سبتة نقطة انطلاقه، فضلا عن معركة وادي المخازن ومعها الملك سباستيان، وهو ما تم التركيز عليه خاصة منه مصير هذا الأخير ومن خلاله السباستيانية بعد نكسة المعركة. وعن المغرب وإسبانيا قارب الأستاذ بوبكر بوهادي عن جامعة شعيب الدكالي بالجديدة، ما هناك من تفرد علاقة جامعة بين البلدين لافتا لِما هناك من معطى جغرافي ومن ثمة حتمية جوار، ذلك الذي أغنته أحداث وتجارب زمن كانت بأثر في بناء ما هو هوياتي لهما، فضلا عن الصورة التي يقارب بها كل واحد منهما الآخر. لافتا لما كان للفترة الاستعمارية من أثر في بلورة معالم هذه الهوية ومن ثمة ما هناك من علاقة، وهو ما تقوم عليه جملة تطلعات راهنة آخذة في الاعتبار ما هناك من مشترك ذاكرة وموقع. وحول صورة إسبانيا أيضا في الكتابات التاريخية المغربية، تناول الأستاذ ميمون أزيزا عن جامعة مولاي إسماعيل بمكناس، ما هناك من تجليات تعقيد في علاقات البلدين منذ قرون، تلك التي بقدر ما اتسمت به من تعاون وتعايش بقدر ما طبعها من صور نزاع. مشيرا إلى أن الكتابات التي تهم الفترة الإسلامية في الأندلس 711-1492م، غالبا ما تصور الإسبان كمنافسين عسكريين ودينيين، وأن التي توجهت بالعناية منها لسقوط الأندلس وحملات الاسترداد، تُصور هؤلاء كقوة غازية محتلة قامت بطرد المسلمين واليهود من إسبانيا، الحدث الذي كان بأثر كبير في ذاكرة المغرب الجماعية. أما الكتابات المغربية حول أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن الماضي وحول التوسع الاستعماري الإسباني بالمغرب (الريف والصحراء)، فقد طبعتها نبرة عدائية إذ تصور الإسبان كمستعمرين محتلين، وتبرز مقاومة السكان المحليين مثل ثورة الريف بقيادة عبد الكريم الخطابي. مع تركيز على ما حصل من صراع وفظائع ارتكبت خلال فترة الاحتلال. لافتا إلى أنه بعد استقلال المغرب تباينت صورة الإسبان في الكتابات المغربية التاريخية، مستحضرة ما هناك من سياق وراهن وتطلع بين البلدين. علما أن من هذه الكتابات ما تتوقف على ذكريات مؤلمة عن فترة الاستعمار (حرب الريف، استعمال الجيش الإسباني للغازات السامة..)، وعليه ما هناك من صورة مشاعر ومواقف.
وعن نظرة الإيبيري للمغرب وحضور المغربي في كتاباته، تناولت الأستاذة وفاء المصمودي عن جامعة محمد الخامس بالرباط، الأنا والآخر من خلال كتاب “رحلة الوزير في افتكاك الأسير”. مستحضرة أواخر القرن السابع عشر عندما توجه وفد سفاري مغربي إلى البلاط الإسباني، في ظرفية ارتبطت بتحرير ثغر العرائش من يد الإسبان ووقوع عدد من الإسبان أسرى في يد السلطان مولاي إسماعيل. بحيث كانت البعثة مغربية بمهمة تباحث مع الإسبان في شأن تحرير الأسرى المسلمين مقابل الأسرى المسيحيين، فضلا عن استعادة محتويات المكتبة الزيدانية المحفوظة في الإسكوريال. ولعله ما قام بتدوينه “الغساني” في نص عنونه بـ”رحلة الوزير في افتكاك الأسير”، بقدر ما تحدث فيه عن هدف البعثة بقدر ما سجل من ملاحظات حول طبيعية المجال الاسباني فضلا عن المجتمع والثقافة والسياسة، ولعل هذا النص الرحلي كان لقاء بين ذهنية إسلامية وفضاء مسيحي، في ظل ظرفية متوترة بين البلدين. هكذا حضر الأنا والآخر فيما أثار السفير المغربي بإسبانيا، وفي ما هناك من نظرة نقدية لكل ما هو غير مسلم.
وفي السياق نفسه وعن مسألة الصورة، ناقش الأستاذ مصطفى المرون الباحث في التاريخ العسكري، ما تركته الحملات الإشهارية حول تدخل المجندين المغاربة في الحرب الأهلية الإسبانية، من بصمة سلبية طبعت مخيال الشعب الإسباني الجماعي، تلك التي تعكس الصورة النمطية لـ “المورو” الشرس وغير المتحضر والتي تنعت المجندين المغاربة بأقبح النعوت. أما من الجانب الفرانكوي فنظرته لم تختلف عن الجانب الجمهوري، لكن الصورة الكاريكاتورية لـ”المورو” الصديق التي مررها الكتاب الفاشيستيون، كانت انعكاسا لتلك التي بلورها الجمهوريون. بحيث أن الاثنين يعطيان صورة موحدة وكذا متبادلة ودورية من حقل لآخر. هكذا حضرت صورة الآخر الجمهوري في مخيال المجندين المغاربة، من خلال شهادات شفوية، لا يزال ينظر لاستعمالها في العالم العربي بنوع من التحفظ، رغم أن الغرب كان سباقا لاستثمارها بطرق فعالة منذ حوالي نصف قرن. وكان “المغرب بعيون صحفي بريطاني “لاورنس هاريس” رفقة السلطان مولاي عبد الحفيظ 1900-1908، هو ما تحدث عنه الأستاذ مصطفى الغاشي عن جامعة عبد المالك السعدي بتطوان. مستحضرا ما شهده المغرب مطلع القرن الماضي من أزمات مست كل وضعه الداخلي فضلا عن علاقاته الخارجية، وهو ما جعله مجالا مفتوحا لتسربات أجنبية ابانت عن مدى هشاشته. معرجا على مغرب ما بعد وفاة السلطان الحسن الأول 1894، وما ارتبط بفترة حكم ابنه السلطان عبد العزيز الذي لم يكن مؤهلا سياسيا لمواجهة. وعليه، ما تلقاه المغرب من ضربات (رفض ضريبة الترتيب، بوحمارة والمخزن، مضاعفات الاتفاق الودي الفرنسي البريطاني، مقررات مؤتمر الجزيرة الخضراء)، فضلا عن حدث وأثر الاحتلال الفرنسي لمدينتي وجدة والدار البيضاء، الذي أطاح بالسلطان عبد العزيز وأوصل أخيه عبد الحفيظ للحكم، وهو ما ركزت عليه المداخلة معتمدة على ما جاء به الصحفي البريطاني، في كتابه: “الرحلة” مع السلطان عبد الحفيظ 1908 – 1909 والتي جاءت في إطار مهمة رسمية من قبل الجريدة التي كان يشتغل بها. وعن جامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس، وفي مداخلة موسومة بـ”عبور الحدود وبناء وعي الشتات: الفاسيون في مانشستر”. تناول الأستاذ سمير بوزويتة كيف صنع الفاسيون لأنفسهم مكانة ثقافية واجتماعية عن وعي بالمَهَاجر، بحيث شكل من هؤلاء ممن استوطن مانشستر حالة متميزة، بانتقالهم من وسط تحكمه عادات وتقاليد معينة إلى ما هو مغاير لِما ألفوه. مشيرا إلى أنهم وجدوا أنفسهم مضطرين للتعايش والاندماج في مجتمعات بمظاهر عدة وجدل حياة آخر، دفعتهم لإعادة ترتيب ما تلقوه من مسلمات عبر عقود. متسائلا عما طبع بيئتهم السابقة من بساطة، وما هناك من آخر وحاجة لإجابات. أما الأستاذ محمد براص الباحث في التاريخ العسكري، فقد ارتأى مناقشة المغرب بعيون أجهزة ألمانيا الاستخباراتية في ظل صراع استراتيجي منذ مطلع القرن الماضي حتى نهاية الحرب العالمية الثانية. مستحضرا سبل ولوج الرعايا الألمان لمنطقة الحماية الفرنسية والمنطقة الدولية بالمغرب، وعزيمة ألمانيا في البحث عن موقع لها به بعد اندلاع الحرب العالمية الأولى، ودخول الألمان مشروع دعاية ألمانية جامعة بين الفعل السياسي والثقافي، توجهت نحو العرب والمسلمين بشكل عام. وهو ما تعمق أكثر من خلال اقتراحات وتوجيهات “عراب الألمان” الشهير ماكس فون أوبنهايم (Max Von Oppenheim)، تلك التي كانت تروم نشر أطروحة تنبني في بعديْها الإيديولوجي الدعائي، على أن ألمانيا يجب أن تعرف لدى المغاربة وغيرهم بـ”صديقة الإسلام والمسلمين”، من أجل بلوغ اختراق ثقافي وسياسي واقتصادي. وعليه، تم إحداث مؤسسات دعائية ألمانية لهذا الغرض، فضلا عن تأسيس صحف ومجلات أبرزها مجلة “الجهاد”. ولعل ما دعمته السياسة الألمانية من صحف إسلامية أسست في برلين، ومنها: العهد، والرأي العام، والشرق، والاتحاد العثماني…، هو ما تناولته هذه المداخلة معتمدة على أرشيف ووثائق تاريخية، لفهم سبل بلورة ألمانيا للفعل الثقافي في بعده الهوياتي، خدمة لصراع استراتيجي وضعته أجهزتها في تنافسها مع القوى الدولية التي كان لها اهتمام بالمغرب، وخاصة منها الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا في ظل صراع استخباراتي منذ مطلع القرن الماضي حتى نهاية الحرب العالمية الثانية.
وحول المجال الأمريكي ضمن محور رابع في ندوة “الآخر والكتابة التاريخية المغربية”، تناول الأستاذ خليل السعداني عن جامعة محمد الخامس بالرباط إشكالية البناء الغربي للكتابة التاريخية الأمريكية. مشيرا إلى أن الدخول في مشروع مؤلف في هذا الأفق من وجهة نظر مغربية، يقتضي فكرة عن الأسطوغرافيا الغربية المتعلقة بأمريكا، وأن القراءة المتأنية للنصوص الأمريكية والفرنسية الحديثة تُظهر بعض الانحرافات. لافتا إلى أنه يكفي تفحص فهارس الدراسات الكرونولوجية وما يلاحظ من بداية بالفترة الاستعمارية، وإدراج للفصل المتعلق بالهنود في الأبحاث الموضوعاتية. موضحا أنه رغم إدخال الدراسات الأسطوغرافية الغربية الحديثة لهؤلاء في دائرة التاريخ، كان عليها البدء بهم كساكنة أصلية في الأبحاث ذات الطابع الكرونولوجي. وأن ما هناك من مقاربة موضوعاتية لم يتم التركيز على مفهوم الحدود بما هو كاف، باعتباره مجال التقاء الأوروبيين بالهنود باتجاه الغرب، وكذا مفهوما مركزيا ميز العقل الأمريكي. مضيفا أن الديمقراطية نشأت بالغرب وليس في غابات الجرمان، وأن مصطلح الحدود المشبع بالنزعة التطورية لا يرى حرجا في تحقيق هذه الديمقراطية بعيدا عن الفوضى، وغلبة القوي وعبر تهجير الهنود باتجاه محميات لدرجة نية القضاء عليهم. كلها أمثلة وغيرها تظهر ما هناك من انحرافات نصوصية، من المهم التعامل معها بحذر في أفق كل مشروع كتابة عن الآخر.
وعن الزمن الأمريكي والعلاقات أيضا، عرضت الأستاذة خديجة القباقبي عن جامعة القاضي عياض بمراكش، لأهمية النص الرحلي في الكتابة. مشيرة لِما هناك من تقارير دبلوماسية مغربية ونصوص رحلية أمريكية، ولِما حصل بالمغرب بعد استقلاله ضمن حرب باردة بين معسكرين وأيديولوجيتين، عندما ارتأت و م أ اختيار فاعلين مغاربة لزيارتها منهم المهدي بن بركة وعبد الكريم غلاب وغيرهم، وهو ما انتهى بنصوص رحلية بقدر رافع للكتابة عن البيني العلائقي المغربي الأمريكي. ذلك الذي قارب فيه الأستاذ محمد مزيان عن جامعة ابن طفيل بالقنيطرة ضمن نفس المحور والسياق، مقتضيات بناء الدولة وتعزيز العلاقات الخارجية زمن الرئيس إيزنهاور1953 – 1961، لافتا إلى أن هذا الأخير تعرف عن المجال المغربي منذ الإنزال الأمريكي بشواطئه مطلع أربعينات القرن الماضي، وأن الأرشيف الأمريكي بوعاء يخص ما طبع هذه الفترة من إجراء وتقارب، في زمن مغرب ما بعد الاستقلال وتطلعات بناء الدولة، ومن ثمة ما هناك من أسئلة الأنا والآخر في هذه العلاقات. وعن المراكز الثقافية الأمريكية في المغرب المعاصر، ناقشت الأستاذة حنان هيشامي، عن المندوبية السامية لقدماء المقومين وأعضاء جيش التحرير بالرباط، البعد الثقافي الأمريكي للتأثير على الشعوب وتشكيل العلاقات فضلا عن تعزيز صورة أمريكا في الخارج. وعليه، ما كان لهذه المراكز من أدوار جذب وتعزيز لنشر اللغة الإنجليزية، من أجل تسهيل تبادل ما هو ثقافي بين الآخر والأنا. وعن أمريكا اللاتينية / الجنوبية في ندوة الآخر أيضا، عالج الأستاذ بوشتى الحزيبي عن جامعة مولاي سليمان ببني ملال، جوانب البناء الديمقراطي بالمغرب وغواتيمالا من خلال مداخلة مقارنة، حضرها سؤال صعوبة بناء أنظمة ديمقراطية مستقرة في غالبية دول أمريكا اللاتينية على غرار ما يوجد بأوروبا الغربية. ولعله السؤال نفسه الذي يهم بقية الدول النامية، ومعها رأي من يرجع الوضع لِما ينعت بـ “الحتميات الثقافية” التي دحضها ما حصل من نجاح ونماذج هنا وهناك بين دول الجنوب. هكذا كان أثاث وجدل ندوة الرباط الوطنية “الآخر في الكتابة التاريخية المغربية” على امتداد يومين من شهر دجنبر الأخير، تلك التي بقدر ما طبعها من إسهامات ورؤى وقراءات فضلا عن قيمة معرفية ومنهجية وخلفية بحثية، بقدر ما انتهت إليه من توصيات رافعة لإغناء الأفق البحثي العلائقي التاريخي بالجامعة المغربية، على مستوى سياقاته وتجلياته وقضاياه وموارده المصدرية وكذا رهاناته ووعاء نصوصه.
0 تعليق