قال يوسف إدريس في حديث تلفزيوني معه إن هناك ثلاث مهن في الحياة تعد مسألة الأمانة فيها مسألة خطيرة، وأي إخلال بها يخل بالنظام البشري كله، مهنة : القاضي والكاتب والطبيب. وأضاف إن في كل المهن نوعا من الأمانة بالطبع لدي المهندس والمحامي والمحقق، لكن المهن الثلاث المشار إليها قد تغيّر مصير إنسان أو تنهي حياته أو تتيح له فرصة جديدة لكي يعيش! وفي هذا السياق سنرى أن الأدب العربي قد زانته عدة أسماء من أدباء وأطباء لامعين، كان يؤرق كل منهم ضميران معا وليس ضميرا واحدا: الضمير الأدبي والأمانة العلمية، ونعرف منهم الشاعر الكبير إبراهيم ناجي، وأحمد زكي أبو شادي مؤسس مدرسة أبوللو الشعرية، ويوسف إدريس، ومحمد المخزنجي، والروائي السوري عبد السلام العجيلي، ومحمد المنسي قنديل، وفي الأدب الروسي يظل خفاقا اسم أنطون تشيخوف وميخائيل بلجاكوف. اللافت للنظر هنا ضرورة وجود شيء مشترك بين المجالين، الشيء الذي عبر عنه ألبرت اينشتاين حين قال إن" الخيال أهم من المعرفة أحيانا"، بمعنى أن الخيال يشكل طريقا مشتركا يفضي إلى العلم والأدب. في هذا السياق ظهر مؤخرا كتاب" زمان الوصل في المحروسة"، للطبيب الأديب دكتور رشدي يوسف المقيم في الزقازيق بعيدا عن أضواء العاصمة. و"زمان الوصل" عند د. رشدي هو زمان الأحلام والسنوات الندية التي ربطته رغم انهماكه في دراسة الطب بالشاعر أمل دنقل، والقاص يحيي الطاهر عبد الله، والزجال الشعبي أحمد فؤاد نجم، والكاتب المبدع صلاح عيسى، إنه زمن الأحداث الثقافية التي كان د. رشدي شاهدا عليها أو مشاركا فيها، يستعيدها بمزيج من الحنين والنقد والتطلع إلى الحقيقة بعد انقضاء كل تلك السنوات. وخلال ذلك يرسم لنا د. رشدي صورا شخصية لأولئك الأدباء يحكي لنا كيف جاءه يحيي الطاهر ذات يوم ليخبره أنه تشاجر مع أحمد نجم، فعلق صلاح عيسى على ذلك ضاحكا بقوله إن يحيي:" غماز لماز غضوب، يتشاجر مع ذباب وجهه". لكن المقالات التي ضمها الكتاب لا تتوقف فقد عند الأدب، بل تتخطاه إلى فكر الثورة العرابية، وإلى الاحتشاد الشعبي حولها مستشهدا بأغنية شعبية من تراث ذلك الزمن: " من طلعة الفجر قومي.. يا مصر يا عياشة.. وقمري العيش.. مدي ايديك لأحمد عرابي باشا.. آمر لواء الجيش". ويشير د. رشدي في الوقت نفسه إلى عجز البرجوازية المصرية منذ نشأتها عن تبني القيم الليبرالية التي نشأت في أوروبا ضمن ظروف تاريخية مختلفة، ولاحقا جمدت ثورة يوليو الحالة الليبرالية وأخمدتها على مستوى الممارسة السياسية، وحينما فتح السادات باب التعددية فإنه فتحه لفضاء كانت قد سيطرت عليه بالفعل جماعات الاسلام السياسي.
إنه كتاب ممتع يحلق بك بين الأدب، والأدباء، وزمن الوصل، وبين دنيا الأحداث السياسية التاريخية التي مرت بمصر، وفي كل ذلك يذكرنا د. رشدي يوسف الطبيب والكاتب بأن الخيال طريق للمعرفة العلمية والأدبية، مادام الكاتب وفيا محكوما بضميرين، ربط رسالته بالأمانة المزدوجة.
0 تعليق