مع تزايد الضغط على الموارد الطبيعية وتراجع المساحات الخضراء وزيادة أعداد المركبات والتوسع الحضري السريع الذي يفتقر أحيانا إلى التخطيط البيئي المستدام، أصبحت المدن المغربية تواجه تحديا مزدوجا يتمثل في الحفاظ على جودة الهواء وتحقيق أهدافها البيئية.
التوسع الحضري، الذي يُعد محركا للتنمية الاقتصادية، يترافق غالبا مع ارتفاع في انبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري؛ مثل ثاني أكسيد الكربون وأكاسيد النيتروجين، إلى جانب الجسيمات الدقيقة المتطايرة التي تهدد الصحة العامة.
هذا الواقع يطرح تساؤلات حول قدرة المغرب على الوفاء بالتزاماته المناخية، خاصة في ظل توقيعه على اتفاقية باريس التي تهدف إلى خفض انبعاثات الغازات الدفيئة بنسبة 45 في المائة بحلول عام 2030؛ وذلك مع استحضار الجهود الحكومية للاستثمار في الطاقات المتجددة وتعزيز النقل العام الصديق للبيئة.
مصطفى بنرامل، رئيس جمعية المنارات الإيكولوجية من أجل التنمية والمناخ، قال إن مشكلة تلوث الهواء في المدن المغربية تتفاقم، مستندا إلى إحصائيات المختبر الوطني لمراقبة جودة الهواء التابع لوزارة الانتقال الطاقي والتنمية المستدامة.
وأضاف بنرامل، ضمن تصريح لهسبريس، أن نسبة الغازات المسببة للاحتباس الحراري، خاصة ثاني أكسيد الكربون، تضاعفت نتيجة الأنشطة الصناعية والخدماتية في الحواضر، لاسيما المدن الصناعية التي تضم وحدات إنتاجية.
وأبرز الفاعل البيئي أن تطور أسطول النقل الحضري، بما يشمل السيارات الشخصية وسيارات الأجرة والحافلات والشاحنات، “يسهم بشكل كبير في هذا التلوث”، حيث تختلف حدته حسب طبيعة المدينة أو المركز الحضري.
وأكد المتحدث أن نسبة الحبيبات المتطايرة الدقيقة، التي لا يتجاوز سمكها 2.5 ملم، تشكل أيضا خطرا مزدوجا، إذ تعمل كحاجز للاحتباس الحراري مما يفاقم التغير المناخي، كما تسبب مشاكل صحية مثل صعوبات التنفس، خاصة لدى الأطفال والمسنين والمصابين بالأمراض المزمنة.
وسلط رئيس جمعية المنارات الإيكولوجية من أجل التنمية والمناخ الضوء على التلوث الناتج عن الصناعات الملوثة؛ مثل محطات الطاقة الحرارية التي تعتمد على الفيول أو الفحم الحجري في مدن مثل آسفي والقنيطرة وطانطان والعيون والداخلة، إلى جانب مصانع الأسمنت والورق والنسيج ومعالجة المياه العادمة.
من جانب آخر، ذكر الخبير البيئي ذاته أنه حتى الأنشطة القروية، كتربية المواشي والفلاحة، تساهم في التلوث؛ مما يتطلب جهودا إضافية من المغرب للحد من تغير المناخ عبر التوعية، وتحفيز الأنشطة الصديقة للبيئة، وتقليل استخدام السيارات الشخصية لصالح النقل العام المستدام.
وفيما يخص التوسع الحضري، اقترح مصطفى بنرامل اعتماد نماذج مستدامة كالتي تُطبق في الدول الأوروبية وبعض الدول النامية؛ مثل القطب المائي بالدار البيضاء أو المدينة الخضراء ببنكرير، حيث تُتخذ إجراءات مسبقة لتثبيت الأنشطة الملوثة والتخطيط لتنقل مستدام عبر الترامواي والحافلات الكهربائية.
ودعا الفاعل البيئي إلى تحفيز المواطنين على اقتناء السيارات الكهربائية لتقليل انبعاثات الكربون، مع ضمان نظافة المدن للحد من الجسيمات الدقيقة، مشددا على أن هذه التدابير يمكن أن تخفض نسب الغازات الملوثة كأكاسيد النيتروجين والمركبات الكربونية.
من جانبه، اعتبر أيوب كرير، الخبير في المناخ والتنمية المستدامة ورئيس جمعية “أوكسيجين للبيئة والصحة”، أن التوسع الحضري في المغرب، كما في دول العالم الثالث، “يشكل تحديا كبيرا لالتزامات البلاد بتخفيض الانبعاثات”، خاصة عندما يفتقر إلى إدماج البعد البيئي في المخططات الحضرية.
وأبرز كرير، في حديث لهسبريس، أن هذا التوسع السريع يزيد من عوامل التلوث مثل ارتفاع عدد المركبات، مما يرفع مستويات أكاسيد النيتروجين والجسيمات الدقيقة (PM10 وPM2.5)، إلى جانب النمو الصناعي غير المستدام الذي يولد أكاسيد الكبريت والكربون في المناطق الصناعية بالمدن المغربية.
وأضاف الخبير في المناخ والتنمية المستدامة أن التوسع العمراني العشوائي، “الذي لا يراعي المعايير البيئية، يؤدي إلى إزالة المساحات الخضراء التي تعمل كرئة لامتصاص الكربون وتحسين جودة الهواء”، مشيرا إلى أن هذا التقلص “يشكل كابوسا للمدن المغربية”، رابطا التوسع الحضري بزيادة استهلاك الطاقة من مصادر غير نظيفة؛ مما يرفع انبعاثات الكربون ويعيق تحقيق هدف المغرب بخفض الانبعاثات بنسبة 45 في المائة بحلول 2030، وفقا لالتزامه باتفاقية باريس.
من جانب آخر، أشار كرير إلى أن التوسع الحضري “يضع ضغطا كبيرا على الموارد الطبيعية، مع تدمير الغابات والمناطق الطبيعية، واستخدام وسائل نقل غير مستدامة يزيد من الغازات الدفيئة، مؤثرا حتى على المدن المجاورة”، محذرا من أن هذا الوضع “يهدد مسار المغرب نحو الحياد الكربوني بحلول 2050، ما لم تُدعم التنمية الحضرية بسياسات بيئية مستدامة تراعي الزيادة السكانية وتطور البنية التحتية، مع الحفاظ على التوازن البيئي”.
واقترح رئيس جمعية “أوكسيجين للبيئة والصحة” تسريع تنفيذ المساهمات الوطنية عبر مشاريع مثل تشجيع البناء الأخضر والمباني الموفرة للطاقة؛ “لكنه ينتقد غياب هذا المبدأ في معظم المدن التي تعتمد على ما وصفها بـ”صناديق إسمنتية”، خالصا إلى الدعوة إلى زيادة المساحات الخضراء داخل المدن مع تطبيق معايير بيئية صارمة على الأنشطة الصناعية، وتعزيز النقل الكهربائي والعام الصديق للبيئة، معتبرا أن التوسع الحضري “قد يكون فرصة إذا تم تبنيه بطريقة مستدامة تدعم الالتزامات المناخية وتحافظ على الصحة العامة”.
0 تعليق