العودة إلى الطفولة حنين إلى ماضٍ تليد والمناسبات كثيرة تلك التي تعيد الذكريات الجميلة، وشهر رمضان شهر الخير والبركات يعيد لنا بشوقٍ جارفٍ تلك الأيام التي كنا في قرية البديع وعند المسجد الشمالي مسجد عبداللطيف الودعاني الدوسري، وتحديدًا في المساحة التي هي إلى الشرق من المسجد، حيث يتفنن صبية البديع بعمل دكاكين من الحجر لكل واحد منهم، وليس المهم ما يباع فيه وإنما المهم التعود على مهنة البيع والشراء وخلق جو رمضاني مفعم بالإنتظار لمدفع الإفطار ورفع أذان المغرب، والكل يترك ما في يديه ويذهب مهرولًا إلى بيت العائلة يبشرهم بأذان المغرب وبدء الإفطار، وأحيانًا يصل البعض إلى بيت الأسرة، وإذا بالأسرة قد سبقته في تناول فردات التمر وشرب الماء، لكنه برغم ذلك يشعر بالمتعة بأن يبشر أهله بموعد الإفطار، إستعدادًا طبعًا لصلاة العشاء وسنة التراويح، عندئذ يكون المسجد قد استقبل جموع المصلين الغفيرة حتى إذا ما جاء موعد النصف من رمضان بدأ الأولاد والبنات الإستعداد لليلة القرقاعون منفردين أو مجتمعين، ويشعر الأولاد والبنات بالتضامن والألفة والمحبة وهم ينشدون الأهازيج التي يدعون من خلالها لأهل البيت ومن يسكن فيه وكذلك الأولاد والبنات الخير والبركة، ويفرحون بالمكسرات والحلويات التي يتبرع بها أهل البيت يتساوى في ذلك من يملك ومن لا يملك، فالعادات والتقاليد تفرض على الجميع التعاون لغرس الفرح في نفوس العائلات والأطفال.
قبل يومين من رمضان هذا العام تبرع أحد الزملاء من سوريا الشقيقة هو الوزير المفوض زيد رفيق الصبان مدير إدارة القرن الأفريقي والسودان بدعوتنا على فطور يسمى «تكريزة رمضان» وهي عادة متبعة لدى الأسر الدمشقية، يقومون بها لتوديع شهر شعبان، واستقبال شهر رمضان بفرح وسرور والتكريزة كما يصفها أبو رفيق هي نزهة تقوم بها العائلات إلى خارج المدن، حيث يتم هذا «السيران» الجماعي من مناطق مطلة على مناظر الخضرة والمياه لولع أهل الشام بالمياه والخضرة، ويتناولون مختلف أنواع الأطعمة، ويمارسون الألعاب الشعبية التي سينصرفون في رمضان للعبادة ولا سيما التراويح والنوافل وقراءة القرآن الكريم.
وغالبًا، كما يقول محدثنا أبو رفيق، تبدأ التكريزة في النهار وتنتهي بعد العصر بالعودة إلى منازلهم وقد يجتمع في هذه النزهة الأقارب جميعهم أو تقتصر على الأسرة الصغيرة. وذكر الأستاذ منير كيال المؤرخ للتقاليد الشامية في كتاب «يا شام» الصادر عام 1984م أن «من العادات الدماشقة القيام بما يسمى تكريزة رمضان فقبيل حلول شهر رمضان بيوم أو يومين يقومون بسيارين (نزهات) الغوطة الشرقية أو مناطق الربوة والشادروان والمقسم والمنشار والغياض كما جاء في الكتاب: إن الشباب يتحلقون حول شاب تبرع بوصلة غناء من الميجانا أو العتابا وأبو الزلف، وبعض المنولوجات الشعبية». وهو عادات يفرضها ببهجته رمضان الكريم، كما نشاهد في جمهورية مصر العربية والقاهرة تحديدًا وغيرها من المدن والقرى الإستعداد والبهجة بقدوم شهر رمضان كالفوانيس والبسط والأردية المزخرفة والمبهجة للنفس والخاطر، وموائد الرحمن التي انتشرت في أحياء ومناطق القاهرة وغيرها.
ونحن في مملكة البحرين عودنا حضرة صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة ملك البلاد المعظم حفظه الله ورعاه بإقامة مأدبة إفطار بقصر الروضة بمناسبة حلول شهر رمضان المبارك حضرها صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن حمد آل خليفة ولي العهد رئيس مجلس الوزراء الموقر حفظه الله كما حضر المأدبة أصحاب السمو أبناء جلالته الكرام، وأعضاء مجلس العائلة المالكة وكبار أفراد العائلة المالكة الكريمة، حيث رفعوا إلى جلالة الملك المعظم خالص التهاني وأطيب التبريكات بقدوم شهر رمضان الفضيل...
إن مجالس أهالي مملكة البحرين عادة تكون عامرة بالمهنئين بقدوم الشهر الفضيل في مدن وقرى مملكة البحرين، وفي أواخر الشهر في العادة تقام مآدب الغبقة الرمضانية في منتصف الليل وبدأت بعض الوزارات والهيئات والمؤسسات والشركات بإقامة مثل هذه المآدب لموظفيها والمنتسبين لها وضيوفهم الأعزاء.
سيظل رمضان بأنواره ولياليه الجميلة وقراءة القرآن الكريم وصلوات التراويح علامات مضيئة في مجتمعنا الآمن المستقر والحرص على التواجد وتبادل الآراء وإقامة جلسات «التثويب» للمتوفين من أهل البيت عادات دينية وتراثية جُبل عليها مجتمعنا وكنا ونحن أطفال نبتهج بهذه المناسبات العزيزة ونشارك فيها رغم صغر سننا الأهالي الذين يجدون من واجبهم إحياء ذكرى الراحلين، والدعاء لهم بالمغفرة والرضوان.
شهر رمضان لما له من قدسية ففيه نزل القرآن الكريم فهو أيضًا مناسبة إجتماعية وثقافية وتربوية وتدعيم للأواصر وتعويد الأبناء على الطاعة وأداء الفروض التي أوصانا الخالق جل وعلا على إتباعها والتقيد بها لما ينفع مجتمعنا ويقوي الأواصر فيما بيننا.
ندعو الله جلت قدرته أن يديم على أمتنا العربية والإسلامية الخير والسعادة والأمن والأمان، وأن يرزقنا الأجر والثواب بالتمسك بالقيم الربانية وصوم رمضان وأداء الصلوات في وقتها وقراءة القرآن والاستماع إليه من كبار القراء الذين حباهم الله جلت قدرته بأصوات جميلة وأداء يبعث في النفس الطمأنينة وراحة البال وما أكثر هؤلاء القراء المتميزين في عالمنا العربي والإسلامي، وما إقامة مسابقات القرآن الكريم إلا تأكيدًا لعظمة القرآن الكريم وآياته المحكمات التي تبعث في النفس الطمأنينة والاستقرار والدعة.
نحتاج دائمًا إلى تذكير أنفسنا بالقيم السماوية والواجبات الدينية وإقامة الشعائر التي تؤكد تضامننا وتكاتفنا والاقتداء بما ورد في محكم التنزيل.
أطال الله في أعماركم وجعلكم ممن منّ الله عليهم بالصيام وقراءة القرآن وأداء الصلوات في وقتها...
وعلى الخير والمحبة نلتقي..
0 تعليق