في أمريكا اللاتينية، التي كانت تاريخيا معقلا لمساندة أطروحة الانفصال بقيادة جبهة البوليساريو بدعم جزائري، تشهد قضية الصحراء المغربية تطورات دبلوماسية متسارعة، إذ عرفت السنوات الأخيرة تحولا ملحوظا، حيث سحبت دول مثل الإكوادور والسلفادور وبنما اعترافها بالجمهورية الوهمية، فيما أبدت أخرى مثل البرازيل دعمها لمبادرة الحكم الذاتي المغربية.
ويرى المراقبون أن التوسع الحضاري والاقتصادي للمغرب في القارة الأمريكية اللاتينية، عبر شراكات استراتيجية، عزز موقعه كشريك موثوق. ومع ذلك، ينبّهون إلى أن الجزائر، في المقابل، وبالرغم من عزلتها المتزايدة نتيجة سياساتها الخارجية المتعثرة، لم تستسلم، بل كثفت جهودها عبر الدبلوماسية الموازية لاستمالة الدول التي غيرت مواقفها.
في ظل ذلك، تبرز أهمية أمريكا اللاتينية كفضاء جيو-استراتيجي، خصوصا مع تراجع الإيديولوجيات الماضوية التي كانت تدعم البوليساريو. كما توفر التحولات السياسية والاقتصادية في المنطقة فرصا للمغرب لتعزيز حضوره، لكنها تتطلب، حسب المتتبعين، استراتيجية استباقية لمواجهة المناورات الجزائرية.
محمد أبركان، أستاذ العلوم السياسية بالكلية متعددة التخصصات بالناظور، قال إن الجزائر والبوليساريو “يواجهان صعوبات متزايدة في الحفاظ على دعم حلفائهما التقليديين في أمريكا اللاتينية، نتيجة تراجع نفوذ الجزائر بسبب تناقضات سياستها الخارجية بين الخطاب والمواقف والممارسات تجاه القضايا الدولية والإقليمية”.
وأشار أبركان، ضمن تصريح لهسبريس، إلى أنه نتيجة لهذا التراجع الذي أدى إلى عزلتها دبلوماسيا، “تسعى الجزائر مؤخرا لتعويض ذلك عبر تكثيف دبلوماسيتها الموازية لاستعادة موطئ قدم في دول القارة”، موضحا أن الجزائر “تحاول استمالة دول مثل الإكوادور والسلفادور وبنما والبيرو، التي سحبت اعترافها بالجمهورية الوهمية، من خلال الأنشطة المدنية والجمعوية والنقابية ضمن الدبلوماسية غير الرسمية”.
وأبرز أن الدول المعترفة بالكيان الوهمي أمثال المكسيك وفنزويلا وكوبا، “هي قلة متمسكة بإيديولوجيات ماضوية تفقد زخمها تدريجيا”، مشيرا إلى سلسلة النجاحات المغربية، مثل توالي سحب الاعتراف بالكيان ودعم البرازيل للحكم الذاتي، إلى جانب عزم دول على فتح قنصليات في الصحراء المغربية، بالرغم من أنها “كانت معاقل تقليدية للبوليساريو”.
ومع ذلك، يقرّ الأستاذ الجامعي ذاته بـ”ضرورة تكثيف المغرب جهوده الدبلوماسية في أمريكا اللاتينية، مستغلا التحولات السياسية والاقتصادية بالقارة واعتماد مبادرات كمبادرة الملك محمد السادس الأطلسية لتعزيز العلاقات الاقتصادية والدبلوماسية الموازية”، مشددا، في هذا السياق، على أهمية التعاون بين المجتمع المدني والأحزاب والبرلمانات والجامعات لتصحيح التصورات الخاطئة حول النزاع، معتبرا أن تثمين العلاقات التاريخية مع دول كالبرازيل والأرجنتين “سيحاصر تحركات الجزائر والبوليساريو، ويعزز موقع المغرب لخدمة قضية وحدته الترابية”.
من جانبه، اعتبر بوسلهام عيسات، باحث في الدراسات والسياسات الدولية، أن “إنجازات الدبلوماسية المغربية في أمريكا اللاتينية تحتاج إلى تعزيز مستمر”، مشددا على أهمية اليقظة الدبلوماسية لمواجهة استغلال خصوم الوحدة الترابية للمؤتمرات واللقاءات الإقليمية للترويج لأجنداتهم المعادية للمغرب، خاصة أن هذا الفضاء لا يزال، بحسبه، متأثرا إيديولوجيا بأطروحة الانفصال.
وأضاف عيسات، في حديث لهسبريس، أن العمل الاستباقي “ضروري لتعزيز الشراكات مع الدول التي غيرت مواقفها، مثل تلك التي جمدت اعترافها بالكيان الوهمي، من خلال تفعيل لجان التشاور السياسي المشترك لتجنب تأثير مناورات الخصوم”، مستحضرا، في هذا السياق، تجربة الانتخابات الأخيرة في الاتحاد الإفريقي كدرس يمكن الاستفادة منه للحفاظ على المكاسب الدبلوماسية في أمريكا اللاتينية، داعيا إلى “أجندة مغربية واضحة تركز على تعميق العلاقات الثنائية”.
وركز الباحث ذاته على أهمية الدبلوماسية الموازية، خصوصا البرلمانية، “التي أصبحت تلعب أدوارا بارزة في اختراق الفضاء الأمريكو-لاتيني”، لكنه دعا إلى “بذل جهود أكبر نظرا للأهمية الجيو-استراتيجية لهذا الفضاء”، معتبرا أن “تعزيز الحوار جنوب-جنوب عبر المجال الأطلسي الإفريقي-الأمريكي يمثل فرصة لتحويل المنطقة إلى فضاء للرخاء والتعاون، مما يعزز أحقية المغرب في صحرائه ويضمن استدامة الدعم الدولي”، خالصا إلى أن أمريكا اللاتينية “يجب أن يُنظر إليها كفرصة حقيقية لتكريس سيادة المغرب على كامل ترابه”.
0 تعليق