بدون عنوان: العنف ضد النساء .. "شهادات صادمة" وأحكام قضائية مخففة

هسبيرس 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نِسَاءٌ تَسَلَّلَ العُنْفُ إِلَى حَيَاتِهِنَّ كَظِلٍّ ثَقِيلٍ، لَا يُرَى لَكِنَّهُ حَاضِرٌ فِي كُلِّ زَاوِيَةٍ، يَتَرَبَّصُ بِهِنَّ فِي النَّظَرَاتِ المُشْحُونَةِ بِالاحْتِقَارِ، فِي الكَلِمَاتِ الَّتِي تَهْوِي عَلَيْهِنَّ كَخَنَاجِرَ بَارِدَةٍ، فِي الدَّفْعِ الخَفِيفِ الَّذِي لَا يَلْبَثُ أَنْ يَتَحَوَّلَ إِلَى ضَرْبٍ مُبَرِّحٍ، يَتْرُكُ كَدَمَاتٍ عَلَى الأَجْسَادِ وَأُخْرَى أَعْمَقَ لَا تُرَى، لَكِنَّهَا تَتَجَذَّرُ فِي القَلْبِ وَالرُّوحِ، تُحِيلُهُمَا إِلَى سِجْنٍ مِنَ الخَوْفِ وَالصَّمْتِ.

التقت هسبريس مليكة (اسم مستعار)، ضحية العنف الزوجي التي قالت في شهادتها: “حياتي كلها جحيم. لم يكن ذلك يومًا واحدًا فقط، بل منذ أن عرفته وأنا أعيش في العذاب. لدي ابنتان، وقد شهدتا كل شيء؛ رأتا الضرب، الدم، والإهانات، حتى أصبحتا تعانيان من اضطرابات نفسية حادة بسبب ما عاشتاه”.

وتابعت مليكة في شهادتها لهسبريس حول العنف الذي تتعرض له من طرف زوجها: “أتعرض للعنف والضرب باستمرار، وأعيش في ظروف قاسية، حيث تجرعت كل أشكال الإهانة والتشريد”، وتتابع بحزن: “منذ أن تزوجت به قبل 24 عامًا لم أذق طعم الراحة، فحياتي كانت سلسلة من العنف المستمر، الضرب، الإهانات، والتشريد. لقد عشت في عشرات البيوت لأننا كنا نُطرد باستمرار بسبب عدم دفع الإيجار. لم يوفر لنا أدنى استقرار مادي أو معنوي، بل كان يتركني وبناتي دون مصروف، نواجه الحياة وحدنا”.

عَانَتْ مليكة لِسَنَوَاتٍ طِوَالٍ، حَيْثُ الأَلَمُ لَا يَرْحَلُ، بَلْ يَتْرُكُ بَصَمَاتِهِ القَاسِيَةَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَوْلَهَا؛ آثَارُ العُنْفِ لَيْسَتْ فَقَطْ عَلَى جَسَدِهَا، بَلْ مَنْقُوشَةٌ فِي زَوَايَا حَيَاتِهَا، فِي نَظَرَاتِهَا المُرْتَابَةِ، فِي كَلِمَاتِهَا المُبْتُورَةِ، فِي أَحْلَامِهَا الَّتِي تَلَاشَتْ قَبْلَ أَنْ تُبْصِرَ النُّورَ.

وعن العنف الذي تعرضت له تقول المتحدثة: “عشتُ معاناة جسدية لا تطاق؛ أنفي كُسر ثلاث مرات، وقدماي لم تعدا تقويان على حملي بسبب الإصابات المتكررة. مؤخرًا تعرضت للضرب بقطعة حديد، ما تسبب لي في كسر خطير، ومع ذلك وقف في المحكمة ينكر فعلته، رغم أن هناك شاهدة على ما حدث. شهر كامل قضيته في المستشفى، دون أن يسأل عني أحد. الأطباء أخبروني بأنني بحاجة إلى تدخل طبي عاجل، لكنني لم أجد أي مساعدة”، وتختم حديثها بتنهيدة مليئة بالألم: “عامٌ مضى وأنا أعيش بإصابة خطيرة، أعاني في صمت، لكن أكثر ما يحزنني هو بناتي، فقد كبرن وسط هذا العنف والقهر، وأصبحن يحملن آثاره النفسية العميقة. هن الضحايا الحقيقيات، وأنا لا أملك سوى الصبر”.

قضايا معروضة على المحاكم

قَضِيَّةُ هَذِهِ المَرْأَةِ لَيْسَتْ سِوَى وَاحِدَةٍ مِنْ بَيْنِ مِئَاتِ القَضَايَا الَّتِي عُرِضَتْ عَلَى أَنْظَارِ المَحَاكِمِ المَغْرِبِيَّةِ خِلَالَ السَّنَوَاتِ الأَخِيرَةِ، مُنْذُ دُخُولِ القَانُونِ المُتَعَلِّقِ بِمُحَارَبَةِ العُنْفِ ضِدَّ النِّسَاءِ حَيِّزَ التَّنْفِيذِ. قَانُونٌ جَاءَ لِيَحْمِلَ الأَمَلَ لِكَثِيرَاتٍ، وَيَعِدَ بِحِمَايَةٍ فَعَّالَةٍ وَعَدَالَةٍ مُنْصِفَةٍ، لَكِنَّ الوَاقِعَ كَثِيرًا مَا يَكُونُ بَعِيدًا عَنِ التَّوَقُّعَاتِ.

فَرُغْمَ مَا عَانَتْهُ مليكة مِنْ سَنَوَاتٍ مِنَ العُنْفِ وَالقَهْرِ لَمْ يَكُنِ الحُكْمُ سِوَى شَهْرٍ وَاحِدٍ مَوْقوفِ التَّنْفِيذِ. حُكْمٌ خَفِيفٌ، أَشْبَهُ بِصَفْعَةٍ جَدِيدَةٍ، لَكِنَّ هَذِهِ المَرَّةَ لَيْسَتْ مِنْ مُعَنِّفِهَا، بَلْ مِنْ مَنْظُومَةٍ كَانَ يُفْتَرَضُ بِهَا أَنْ تَكُونَ حِصْنَهَا الآمِنَ.

قالت ضحية العنف: “كانت لدي شهادة طبية تثبت تعرضي لإصابة خطيرة مدة العجز فيها تجاوزت 40 إلى 45 يومًا، ومع ذلك لم يُتخذ أي إجراء بحقه. مرت الأيام وشعرت بالقهر، فلا تعويضات، ولا مساعدة، ولا حتى مجرد التفاتة لإنصافي. بقيت وحدي، منهكة ومتألمة، أعتمد على العكاز الذي وفره لي بعض المحسنين، وأتنقل بالكُرسي الذي جلبوه لي، في حين أنه لم يكلف نفسه حتى عناء إحضار علبة لبن، ولم يزرني في المستشفى ولو مرة واحدة”.

وتابعت المتحدثة: “قضيت شهرًا كاملًا طريحة الفراش، أشعر بالقهر والظلم، حتى تمنيت أن تؤخذ روحي لأرتاح من هذا العذاب الذي لم يترك في جسدي موضعًا إلا وترك فيه أثرًا، من أنفي إلى يدي، ليكمل معاناتي بكسر في رجلي”.

“أحكام مخففة”

حَصَلَتْ هِسْبريس على قائِمَةِ أَحْكامٍ مِن مَوْقِعِ مَحاكِمِ المَغْرِبِيِّ على مَدَى خَمْسِ سَنَواتٍ مُنْذُ دُخولِ قَانونِ مُناهَضَةِ العُنْفِ ضِدَّ النِّساءِ حَيِّزَ التَّنْفيذ، وَبَحَثْنا عَن تُهَمٍ تَضُمُّ عِبارَةَ العُنْفِ في حَقِّ امْرَأَةٍ؛ اسْتَطَعْنا الوُصولَ إلى أَزْيَدَ مِن أَرْبَعَةِ آلافِ حُكْمٍ على مُسْتَوى المَحاكِمِ الابْتِدائِيَّةِ بِمُخْتَلَفِ رُبوعِ المَمْلَكَةِ، سَبْعَةٌ وَأَرْبَعونَ بِالمِائَةِ مِنْها كانَتْ عُقوبَتُها السِّجْنِيَّةُ تَتَراوَحُ ما بَيْنَ شَهْرٍ وَسِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَخَمْسَةٌ بِالمِائَةِ فَقَطْ ما بَيْنَ سَبْعَةِ أَشْهُرٍ وَسَنَةٍ، وَفَقَطْ واحِدٌ بِالمِائَةِ مِنَ الأَحْكامِ تَفُوقُ السَّنَةَ.

وفي هذا الإطار قال محمد ألمو، محام بهيئة الرباط: “في الحقيقة قانون 103.13، الذي صدر في 22 فبراير 2018، جاء كثمرة لورش تشريعي مفتوح ساهمت فيه عدة أطراف، من بينها الجمعيات الحقوقية المهتمة بقضايا العنف ضد النساء”.

وأكد ألمو في لقائه بهسبريس أن “هذا القانون أتى في سياق تنامي ظاهرة العنف ضد النساء، إذ بدأنا نشهد تصاعدًا خطيرًا في أشكال العنف، من التصفية الجسدية إلى جرائم الاغتصاب الجماعي، ما استدعى تدخل المشرع لإيجاد إطار قانوني يستوعب الأشكال المستجدة من العنف التي لم تكن مغطاة في القوانين السابقة”، وتابع: “لكن من الضروري الإشارة إلى نقطة أساسية، وهي أن هذا القانون ليس قانونًا مستقلاً بذاته، رغم أنه يحمل رقمًا مرجعيًا خاصًا (103.13)؛ في جوهره هو مجرد تعديل لمقتضيات القانون الجنائي، وليس تشريعًا قائما بذاته، والدليل على ذلك أن مواده تتضمن تعديلات وإضافات لبعض الفصول الواردة في القانون الجنائي، مثل المادة 404 التي تم تكميلها وتعديلها بمقتضيات جديدة. إذن، نحن أمام تعديلات قانونية وليست منظومة مستقلة لمحاربة العنف ضد النساء”.

على مُسْتَوى مَحاكِمِ الاسْتِئْنافِ اسْتَطَعْنا الوُصولَ إلى أَزْيَدَ مِن سِتَّةَ عَشَرَ حُكْمًا في قَضايا تَحْمِلُ تُهْمَةَ العُنْفِ في حَقِّ امْرَأَةٍ، كانَتْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ بِالمِائَةِ مِنَ الأَحْكامِ السِّجْنِيَّةِ بِها تَتَراوَحُ ما بَيْنَ شَهْرٍ وَسِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَسَبْعَةٌ بِالمِائَةِ ما بَيْنَ سَبْعَةِ أَشْهُرٍ وَسَنَةٍ، وَفَقَطْ واحِدٌ بِالمِائَةِ ما بَيْنَ سَنَةٍ وَسَنَةٍ وَنِصْفِ السنةِ، فيما أَقَلُّ مِن واحِدٍ بِالمِائَةِ مِنَ الأَحْكامِ تَفُوقُ هَذِهِ المُدَّةَ.

قانون مناهضة العنف ضد النساء

في هذا الإطار قالت سميرة موحيا، رئيسة فدرالية رابطة حقوق النساء: “عند صدور القانون 103.13 سجلنا حينها بإيجابية هذه الخطوة، رغم أنه كانت لدينا ملاحظات جوهرية حوله، فهو لم يأتِ مستجيبًا بالكامل للمعايير الدولية المتعلقة بالوقاية، الحماية، عدم الإفلات من العقاب، والتعويض وجبر الضرر للنساء الناجيات من العنف”.

وتابعت موحيا في لقائها مع هسبريس: “رغم أنه قدم مجموعة من التعريفات إلا أن القانون أغفل قضايا هامة، مثل العنف الإلكتروني أو الرقمي، فلم يحدد مفهومه أو يعترف به بشكل واضح؛ كذلك لم يشمل العنف السياسي ولم يعتبره انتهاكًا لحقوق الإنسان أو شكلاً من أشكال التمييز ضد النساء. إضافة إلى ذلك، تضمن القانون تدابير وقائية وحمائية، لكنها لم تُفعَّل بالشكل المطلوب، ما يستدعي تجويدها وضمان تطبيقها الفعلي”.

وأردفت الحقوقية ذاتها: “كنا نطالب بقانون إطار شامل لمناهضة العنف ضد النساء، يكون متكاملاً ومستجيبًا للمعايير الدولية التي حددتها الأمم المتحدة، التي ترتكز على أربعة مبادئ أساسية: الوقاية، الحماية، عدم الإفلات من العقاب، وجبر الضرر والتعويض للنساء المتضررات”.

التحرش في مكان العمل

في مَكانِ عَمَلِها الذي يُفْتَرَضُ أَنْ يَكُونَ مِساحَةً آمِنَةً تَحَوَّلَتْ أَيَّامُها إلى حَقْلٍ مِنَ التَّوَجُّسِ وَالتَّرَقُّبِ. لَمْ يَكُنِ التَّحَرُّشُ صاخِبًا، بَلْ كانَ يَتَسَلَّلُ بِخِفَّةٍ كَظِلٍّ ثَقِيلٍ، يَبْدَأُ بِنَظَراتٍ طَوِيلَةٍ، بِكَلِماتٍ مُغَلَّفَةٍ بِالمِزاحِ، بِلَمَساتٍ عابِرَةٍ تُوحي بِالخَطَأ لَكِنَّها مُتَعَمَّدَةٌ… كانَتْ تُحاوِلُ التَّمَلُّصَ، تَبْتَعِدُ، تَخْتَصِرُ الكَلامَ، لَكِنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ كافِيًا، فَالْبَعْضُ يَرى الصَّمْتَ إِذْنًا، وَالخَوْفَ دَعْوَةً لِلِاسْتِمْرارِ.

تروي عائشة (اسم مستعار) تفاصيل تعرضها للتحرش الجنسي في مكان عملها، التي زادت حدتها بعد وفاة زوجها.

تقول عائشة، البالغة 60 سنة: “أعمل في تنظيف أحد المتاجر، وكنت أقوم بعملي كالمعتاد حتى بدأ أحد الأشخاص التحرش بي. في البداية تجاهلت الأمر، لكنه تمادى. في أحد الأيام، بينما كنت أنظف اقترب مني وحاول لمسي أسفل ظهري، وعندما اشتكيت قاموا فقط بتوبيخه دون أي إجراء حقيقي، لكنه لم يتوقف، بل عاد للتحرش بي مرة أخرى”.

وتضيف عائشة: “بعد وفاة زوجي عدت إلى العمل، لكنني صدمت مجددًا حين وجدت الشخص نفسه يستغل وضعي. في أحد الأيام، بينما كنت أعمل، رفع هاتفه محاولًا تصويري وقال لي بكل وقاحة: الآن أصبحتِ لي، زوجك مات وأنتِ ملكي. لم أتمالك نفسي، شعرت بظلم شديد، فانتزعت الهاتف من يده وضربته به. لم أستطع تحمل الإهانة، فذهبت مباشرة إلى الشرطة وقدمت شكوى ضده”.

وتردف المتحدثة: “هذا الشخص أشعرني وكأنه وحش، جعلني أعيش في خوف دائم. أصبحت أعاني من فوبيا من الرجال، أعمل وأنا في حالة رعب، وأحرص على إنهاء عملي بسرعة قبل أن يحضر أحد. لم يعد لدي أمان في عملي كمنظفة، ففي كل مكان أذهب إليه أخشى أن يتكرر السيناريو نفسه”.

أرقام حول العنف ضد النساء

أكّدت معطياتُ النّيابةِ العامّةِ أنَّ خلايا التّكفُّلِ بالنّساءِ ضحايا العنفِ بالمحاكمِ استقبلت سنةَ ألفينِ وثلاثةٍ وعشرينَ أَزْيَدَ مِن مائةِ ألفِ حالةٍ تُعاني العنفَ ضدَّ النّساءِ، في حينِ تمّ الاستماعُ إلى أكثرَ مِن واحدٍ وخمسينَ ألفِ حالةٍ في السّنةِ نفسها؛ وأَكَّدَ تقريرٌ سابقٌ لها أنَّها استقبلت سنةَ ألفينِ واثنينِ وعشرينَ ما يُفوقُ خمسةً وتسعينَ ألفَ شكايةٍ.

وتؤكّدُ المعطياتُ نفسها أنَّ شكاياتِ التّمييزِ بسببِ الجنسِ جاءتْ في مقدّمةِ الشّكاياتِ بنسبةِ اثنينِ وثمانينَ بالمائةِ، تَلِيها الشّكاياتُ المتعلّقةُ برفضِ الإرجاعِ إلى بيتِ الزّوجيّةِ بنسبةِ ستّةٍ وأربعينَ بالمائةِ، ثمَّ شكاياتُ الاغتصابِ بنسبةِ اثنَيْ عشرَ بالمائةَ، وأخيرًا شكاياتُ التّحرّشِ الجنسيِّ في الفضاءِ العامِّ بنسبةِ ستّةٍ بالمائة.

تقول نجية تزروت، رئيسة شبكة الرابطة إنجاد ضد عنف النوع: “العنف ضد النساء ظاهرة مركبة، إذ نجد أن المرأة قد تتعرض لأربعة أو خمسة أنواع من العنف في آنٍ واحد؛ فعندما يكون هناك عنف جسدي غالبًا ما يكون مصحوبًا بعنف نفسي، والعكس صحيح، فيما يتصدر العنف النفسي معظم الحالات”.

وأكدت تزروت ضمن تصريح لهسبريس أن “هناك أنواعًا أخرى مثل العنف الاقتصادي، العنف القانوني، والعنف الجنسي، وكلها تتقاطع لتشكل معاناة متكاملة تعيشها النساء”.

في مجتمعاتٍ مازالت النّساءُ يُكافحنَ لنَيْلِ حقوقِهنَّ الكاملةِ يبقى العنفُ ضدَّ المرأةِ واحدًا مِن أكثرِ التّحدّياتِ تعقيدًا وإلحاحًا. ورغمَ الخطواتِ التّشريعيّةِ الّتي اتُّخِذَتْ، وعلى رأسِها القانونُ مائةٌ وثلاثةٌ وثلاثةَ عشرَ المتعلّقُ بمحاربةِ العنفِ ضدَّ النّساءِ، إلَّا أنَّ الواقعَ يكشفُ عن ثغراتٍ ونواقصَ تجعلُ الحمايةَ غيرَ مكتملةٍ، والعدالةَ أحيانًا بعيدةَ المنالِ.

هدى، (اسم مستعار)، سيدة في الثلاثينات من عمرها، تعرضت هي الأخرى للتحرش الجنسي في مكان عملها.

تقول هدى في لقائها مع هسبريس: “كنت أعمل في أحد الأسواق، وكان هناك شخص يعمل معي في المكان نفسه، لكن الفرق بيننا أنني كنت أعمل في التنظيف وهو في وظيفة أخرى. في البداية، لم يكن هناك أي تعامل غير عادي، لكنه بدأ لاحقًا بالإشارة إلي بطريقة غير مريحة، والقيام بحركات غريبة. أبلغت المشرف بما يحدث فقال لي أن أبتعد عنه، وإنه سيتصرف معه، لكن لم يحدث شيء”.

وتابعت المتحدثة: “في أحد الأيام بينما كنت أغير ملابسي فوجئت به واقفًا خلفي يحدق بي بطريقة مخيفة؛ شعرت بصدمة شديدة فغطيت نفسي بسرعة وخرجت. في اليوم التالي واجهته مباشرة وقلت له إن ما فعله غير مقبول، لكنه أنكر أي تصرف غير لائق. استمر في مضايقتي، مستغلاً أنني كنت جديدة في العمل ولا أعرف الكثير عن المكان. كان يلاحقني ويطلب رقمي، ولم يتوقف عن التحرش بي رغم أنني اشتكيت عدة مرات”، وأردفت: “بعد محاولات عديدة للدفاع عن نفسي قررت التوجه إلى الشرطة. قدمت محضرًا رسميًا، وتمت مواجهتي به، لكنه أنكر كل شيء. لحسن الحظ أن المشرف على المتجر أدلى بشهادته وأكد تعرضي للتحرش، وبعدها أحالتنا الشرطة على وكيل الملك”.

وتواصل هدى: “الصدمة الكبرى كانت أنه حتى بعد عودتي من الشرطة استمر في التحرش بي داخل مكان العمل، ولم يبدِ أي خوف أو تردد، بل هددني قائلاً: ‘والله لن تتصوري ما يمكنني فعله بك!’، هذه الكلمات زادت خوفي وجعلتني أشعر بأنني في خطر دائم”.

تحديات الولوج للعدالة

مُعتدونَ لا ترهبُهم القوانينُ، ولا تقضُّ مضاجعَهم العقوباتُ، كأنَّهم يعرفونَ دروبَ الإفلاتِ مِن العقابِ كما يعرفونَ تفاصيلَ وجوهِ ضحاياهم؛ يُدركونَ أنَّ القانونَ رغمَ صلابتِهِ على الورقِ قد يكونُ هشًّا في التّطبيقِ، وأنَّ المساطرَ قد تطولُ حتّى تفقدَ الضّحيّةُ شجاعتَها أو تُرهقَها المعركةُ قبلَ أن تبدأ.

تقول موحيا: “تواجه النساء المعنفات عدة صعوبات عند محاولة التبليغ عن العنف الذي يتعرضن له، ويعد عبء الإثبات من أبرز هذه التحديات، إذ يقع على عاتق الضحية وفقًا للقانون 103.13؛ فحين تتعرض المرأة للعنف الإلكتروني، الجسدي، أو النفسي، وهو من أصعب أنواع العنف من حيث الإثبات، تجد نفسها مطالبة بتقديم أدلة تثبت تعرضها له، في حين كان من المفترض أن تتولى النيابة العامة مسؤولية جمع الأدلة”.

وأردفت الحقوقية ذاتها: “يفترض أن تكون هناك شرطة قضائية متخصصة في العنف المبني على النوع الاجتماعي، بحيث تتولى التحقيق وجمع الأدلة فور تلقيها شكاية حول العنف، خاصة العنف الزوجي الذي يحدث غالبًا في أماكن مغلقة، ما يجعل من الصعب على الجيران أو الشهود تقديم شهاداتهم. هذا الأمر يؤدي إلى تضييع حقوق العديد من النساء وأطفالهن بسبب غياب الأدلة أو عدم تعاون المحيط الاجتماعي”.

كما تحدثت موحيا عن ضعف نسبة التبليغ واستمرار المسطرة القضائية، وقالت إن “الإحصائيات تكشف أن 10% فقط من النساء المعنفات يتجرأن على التبليغ، ومن بينهن 3% فقط يستطعن استكمال المسطرة القانونية حتى النهاية؛ وذلك يعود إلى التعقيدات المسطرية التي تواجههن في المحاكم، مثل صعوبة الحصول على شهادة طبية تثبت العنف، وغياب خدمات طبية مجانية تمكن الضحايا من توثيق الأضرار الجسدية التي تعرضن لها والحصول على العلاج اللازم”، خاتمة: “كل هذه العراقيل تجعل من الصعب على العديد من النساء المطالبة بحقوقهن أو تحقيق العدالة”.

مقاربة شاملة

مناهضةُ العنفِ ضدَّ النّساءِ ليستْ مجرّدَ معركةٍ قانونيّةٍ تُحسَمُ بنصوصٍ تُسنُّ أو عقوباتٍ تُشدَّدُ، بل هي قضيّةٌ مجتمعيّةٌ عميقةٌ تتطلّبُ مقاربةً شاملةً، تمتدُّ جذورُها إلى الوعيِ، وتمسُّ كلَّ مناحي الحياةِ؛ فالعنفُ ليس فعلًا معزولًا، بل هو نتاجُ منظومةٍ ثقافيّةٍ واجتماعيّةٍ واقتصاديّةٍ تُغذّيهِ بصمتِها أحيانًا، وبتواطئِها أحيانًا أخرى.

وقال ألمو: “لا يمكن محاربة ظاهرة العنف ضد النساء بالاعتماد على مقاربة أحادية، وخاصة المقاربة الزجرية فقط. العقوبات القانونية ضرورية، لأنه لا يمكن الاكتفاء بالوعظ والإرشاد فقط، فالأفراد لا يمتنعون عن ممارسة العنف لمجرد توجيه النصح لهم. لهذا لا بد من نصوص قانونية صارمة تضمن عدم الإفلات من العقاب، مع العمل بالتوازي على مبادرات موازية تهدف إلى تقليل الحاجة إلى اللجوء إلى هذه القوانين”.

من جانبها قالت موحيا: “لا يمكن اعتبار السجن وحده حلاً رادعاً للعنف ضد النساء، لأن الظاهرة أعقد من أن تُعالج فقط بالمقاربة الأمنية، بل تحتاج إلى رؤية شاملة تدمج العلاج، الدعم، والتأهيل، سواء للضحايا أو حتى للمعتدين الذين قد يكونون في حاجة إلى علاج نفسي”.

" frameborder="0">

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق