سيدة الطرب المغربي ورمز من رموزه الكبار، نجمة استثنائية جمعت بين الموهبة وبحة الأطلس النادرة لتنقش اسمها بحروف من ذهب في ذاكرة الأغنية المغربية، قدمت مشوارا ناجحا يمتد لعقود من الزمن أمتعت من خلاله أجيالا بإرث موسيقي وفني فريد ترسخ في الوجدان. هي واحدة من أعظم الأصوات في تاريخ الموسيقى المغربية والعربية، غاب هلالها تاركا جرحا عميقا في نفوس المغاربة، إنها فقيدة الوطن والفن المغربي نعيمة سميح.
ترعرعت نعيمة سميح في مدينة الدار البيضاء بين أزقة درب السلطان الذي كان يعرف خلال فترة الستينات والسبعينات نشاطًا ثقافيًا ورياضيا متميزا، بحيث تخرجت منه العديد من الأسماء الأدبية والرياضية والمسرحية والموسيقية المغربية.
غادرت نعيمة مقاعد الدراسة عند حصولها على الشهادة الابتدائية، لتلج التكوين المهني في المدرسة الوطنية للحلاقة، وتحترف هذا المجال في البداية وتفتح صالونا خاصا بها.
انطلق مشوارها من خلال برامج اكتشاف المواهب الفنية التي كانت تقدمها الإذاعة والتلفزة المغربية، فكان أول ظهور لها في برنامج “خميس الحظ”، الذي كان يعده الإعلامي محمد البوعناني، ثم شاركت بعد ذلك في برنامج المسابقات “مواهب”، الذي كان يقدمه الراحل عبد النبي الجراري، وهو البرنامج الذي كان مشتلا للعديد من الأصوات المغربية المتميزة في نهاية الستينات على غرار عزيزة جلال وسميرة سعيد.
نالت موهبة نعيمة سميح إشادة واسعة في البداية، لكن مسيرتها كانت مهددة بالتوقف بعد امتناع والدها المحافظ ومعارضته دخول نجلته عالم الفن والغناء لولا تدخل مجموعة من كبار الفنانين والإعلاميين الذين كانوا مؤمنين بموهبتها، من بينهم محمد بنعد السلام، خالد مشبال ومحمد البوعناني، فأقنعوه بأنها ستكون في أياد آمنة، ليقبل مشترطا أن تقتصر مسيرتها الفنية على الموسيقى العصرية المغربية وألا تشتغل إلا مع كتاب كلمات وملحنين محترمين وفي مواضيع بكلمات راقية.
في بداية السبعينات انطلقت الراحلة نعيمة سميح في صناعة اسمها داخل الوسط الفني، فبدأت شراكتها مع العديد من كبار الملحنين والشعراء المغاربة، وعملت مع الملحن عبد القادر الراشدي والشاعر أحمد الطيب العلج، مما منحها فرصة أكبر لإبراز موهبتها الفنية.
قدمت المطربة المغربية أغاني مميزة بصوتها المرهف، الذي جمع بين الإحساس العميق والدقة العالية في الأداء، فكان لها نصيب كبير في تطوير الأغنية المغربية آنذاك حيث مزجت بين الطرب الأصيل والأنماط الحديثة، ما جعلها تحظى بشعبية واسعة في المغرب وخارجه، وكانت قدرتها على تجسيد الأحاسيس والمشاعر من خلال كلمات الأغاني ولحنها، تعكس بصدق التغيرات الاجتماعية والثقافية التي كانت تشهدها البلاد خلال تلك الفترة.
من “ياك أ جرحي” إلى “جريت وجاريت” إلى “أمري بالله” وغيرها من القطع الغنائية الخالدة التي تمثل اليوم رمزية هامة في تاريخ الأغنية المغرب وتعد إرثا ستحتفظ به الخزينة الفنية للمغرب وتخلده الأجيال القادمة، استمرت الفقيدة في تجديد نفسها فنياً طوال مسيرتها، وابتكرت العديد من الأساليب الفنية؛ فكانت تحافظ على أصالتها وفي الوقت ذاته تنفتح على أشكال جديدة من التعبير الموسيقي، مما جعلها فنانة متجددة في كل مرحلة من مراحل حياتها الفنية.
لم تقتصر مساهمات نعيمة سميح على التأثير الفني في الأغنية المغربية، بل ساهمت بشكل كبير في تطوير الذائقة الفنية للمجتمع المغربي، وكانت أغانيها تتطرق إلى قضايا الحب والعاطفة والتقاليد المغربية بما يعكس رؤية فنية عميقة للمجتمع، حتى باتت سفيرة للأغنية المغربية في العالم العربي وفي العالم، وهو ما ساهم في نقل الثقافة المغربية إلى أفق أوسع.
بصمت نعيمة سميح اسمها خلال السبعينات كأصغر فنانة عربية، وثالث مطربة عربية تغني على خشبة مسرح الأولمبيا الشهير في باريس عام 1977 بعد كل من أم كلثوم وفيروز، وهي محطة بارزة في مسار سيدة الأغنية المغربية التي توالت عليها بعد ذلك الإنجازات والنجاحات والتتويجات لكنها ظلت وفية للوطن وصنعت مجدها من وسطه فلم تَنْسَقْ وراء موجة هجرة زميلاتها إلى المشرق.
ولجت نعيمة سميح في عز عطائها الفني القصور الملكية فحظيت باستقبال الملك الراحل الحسن الثاني في مجموعة من المناسبات الوطنية والسهرات والحفلات وأعياد ميلاد الأمراء إلى جانب مجموعة من النجوم، وحظيت بمكانة خاصة لديه بعدما أعجب بصوتها وموهبتها، مما جعلها توصف بـ”مدللة القصر”.
سنة 2007 حصلت الراحلة على وسام الكفاءة الوطنية ووشحت من الملك محمد السادس تقديرا لمسيرتها الفنية الحافلة بالعطاء.
خلال السنوات الأخيرة، عانت الفنانة نعيمة سميح من تبعات المرض الخبيث، وخاضت رحلة علاج دامت طويلا، مما جعلها تتخذ قرار الاعتزال دون الإعلان عنه وتتوارى عن الأنظار والأضواء لتسلم “أمرها لله” وتستقر في بيتها نواحي بنسليمان وتكرس وقتها للعبادة وقراءة القرآن وسط حضن العائلة.
شكلت سنة 2016 آخر ظهور رسمي لصاحبة “غاب عليا الهلال”، وذلك من خلال مشاركتها ضمن فعاليات مهرجان أصوات نسائية بمدينة تطوان، حيث قدمت سهرة فنية كبرى استقطبت جماهير غفيرة تفاعلت معها، وكانت بمثابة لحظة وداع لها مع محبيها الذين ساندوها لسنوات عديدة؛ وداع يليق بصورة نجمة كبيرة وهرم من أهرام الأغنية المغربية.
برحيل المطربة الكبيرة نعيمة سميح خسر المغرب ابنته البارة وأعظم الأصوات المغربية التي سيظل إرثها الفني خالداً في وجدان كل من استمتع بأغانيها واستشعر الصدق والجمال في كلماتها، وسيظل صوتها كما قالت “واقفا على بابنا” يغرد ويصدح في تاريخ الإبداع الوطني.
0 تعليق