رحيل الأسماء والوجوه...

هسبيرس 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

عند كل رحيل يباغتنا، ويختطف من بيننا روحًا لامعة في الفن أو الأدب أو السياسة، تهتز قلوبنا، ونهرع إلى أقلامنا كمن يحاول عبثًا القبض على ظلٍ آخذ في التلاشي. نغمس الحروف في وجع الفقد، نرسم بالكلمات ملامح من رحل، نحيي مجده بصوت كان يجب أن يعلو في حياته لا بعد صمته. هي لحظة يقظة أمام جبروت الزمن، حيث يصير الرثاء وعدًا متأخرًا، ويصبح الحرف شاهدًا على مسيرة امتدت طويلًا، ثم خذلها العمر فانطفأت.

كلما انطفأ نجمٌ في سماء الفن، أو خفت صوتٌ في دروب الأدب، أو سقط فارسٌ من صهوة السياسة، تهتز الأرواح، يتجمد الزمن للحظة، ثم تنفجر الكلمات في رثاء متأخر، في بكاء يشبه اعتذارًا أخيرًا. تتسابق الصحافة إلى ضجيجها المعتاد، تحفر في الأرشيف، تنبش في الذكريات، تعيد تشكيل الملامح على صفحاتها، وكأنها تحاول أن تعيد للراحل بعضًا من مجده الضائع، بعد أن ضنت عليه به في حياته.

الموت يفتح الأبواب المغلقة، يمنح الغائب هالة قدسية، يجبر القلوب القاسية على التذكر، فيغدو من كان منسيًا بالأمس حديث الجميع. فجأة، يصبح الكل عاشقًا لصوته، مفتونًا بكلماته، مأخوذًا بمواقفه. تتزاحم المنشورات، تُستعاد اللحظات المنسية، تُصاغ المراثي بأحرف دامعة، لكن… هل كان هذا الحب حاضرًا حين كان الراحل بيننا؟ أم أن الموت هو وحده من يُجبرهم على الاعتراف بقيمته، بعد أن أمضى عمره يصرخ في صحراء لا صدى فيها؟

وهنا تبدأ المأساة. كم من اسمٍ تألق في عزلته، حارب في صمته، تآكله النسيان في حياته، ولم يُسمع له صوت إلا حين أسكته الموت؟ كم من مبدع رحل وهو يحمل في قلبه مرارة التجاهل، ثم صار، فجأة، أيقونة لا تُمس، تُرفع صوره، تُنشر أقواله، تُبكى خسارته وكأن أحدًا لم يخذله يومًا؟

وهناك، وسط هذا الضجيج، يقف الإعلام، كعادته، بين التقديس والتشويه. بعضهم يرفع الراحل إلى مصاف الأساطير، يمنحه صفات لم يكن ليحصل عليها في حياته، بينما آخرون لا يمانعون في نبش الأخطاء، في البحث عن البقع الداكنة وسط الألق، كأن الموت ليس كافيًا ليمنح الرحمة، وكأن الرثاء لا يكتمل إلا بلسعة التجريح أو بلون المبالغة.

لكن، هل نحتاج إلى الموت لنمنح الكبار مكانتهم؟ هل على المبدع أن يرحل حتى تُرفع قامته بيننا؟ لماذا ننتظر فناءهم حتى نُقدر وجودهم؟ ولماذا، حين يرحلون، نرسمهم في صور لم نسمح لهم أن يكونوها يومًا؟

ربما يكون الموت هو العزاء الأخير لأولئك الذين عاشوا في ظلال النسيان، لكنه أيضًا مرآة تعكس نفاقنا، وتجعلنا نتساءل: كم من حيٍّ بيننا يستحق أن يُحَب الآن، قبل أن يصبح مجرد اسم في لائحة الغائبين، نرثيه بحروف لم نحمله إياها يومًا وهو حي؟

ما الذي يمنع قلوبنا من الاحتفاء بالحب في زمنه الحي، وكأن الشوق لن يوقظ الذاكرة إلا في لحظة الفراق؟ لماذا لا نجرؤ على اعتلاء صواريح الشغف قبل أن يستقر الخريف في أحضاننا، وكأن القلوب لا تُشعل إلا بذكريات العناق المفقود؟

تتجلى أمامي، صور الأحلام التي بنيناها سوياً، بينما يتوارى الكثيرون في العتمة، خذلهم وهج الحب، ونسوا كيف يزهرون معاً. كيف نترك كلماتنا عالقة بين جدران الصمت، ولا نستعيد عبقها إلا حينما يتلاشى ظلنا، وكأن الفراق هو السبيل الوحيد إلى استرجاع ماضٍ كان يُشرق بوجودنا.

أهو قدرنا أن تُعلن الأسماء موتها في قلوب من أحبونا، لكي نستفيق أخيرًا على أصواتهم التي تُهمس في زوايا ذاكرتنا، ونبدأ بالاعتراف بقيمة الحب الذي كان، ولكن تحت وطأة الفقد الذي يعيد صياغة مشاعرنا.

فليكن حبنا شجرةً تُثمر في قلوبنا، لا تموت إلا حين نختار أن نتركها تموت، ولنجعل من كل لحظةٍ نعيشها معًا سببًا للاحتفاء بالحياة، قبل أن يُعلن الرحيل حضوره القاسي.

ما الذي يمنع المغاربة من الاحتفاء بأسمائهم ووجوههم وهم أحياء؟ لماذا لا يستيقظ الوجدان الجماعي إلا على وقع الفقد، وكأن الموت وحده هو جواز المرور إلى الذاكرة؟ كيف يُترك المبدعون ليتواروا في العتمة، بعدما خذلتهم أضواء النجومية، ولا يُستعاد ذكرهم إلا حين يعلن الرحيل حضوره القاسي؟ أهو قدرٌ محتوم أن تُعلن الأسماء موتها، كي يهب الجمهور أخيرًا إلى تذكرها والاعتراف بقيمتها؟

في زحام الحياة اليومية، يظل المبدعون محاطين بصمتٍ خانق، كأنهم ضوء خافت لا يلتفت إليه أحد. هل نحتاج إلى حزن الفقد لنفتح أبواب الذكريات، ونعيد إحياء ما فقدناه في زحمة الأيام؟ قد يبدو الأمر وكأنه صراع دائم بين الذاكرة والنسيان، حيث يُنادى على الأسماء بعد أن تُطوى صفحاتها.

إن الاحتفاء بالمبدعين وهم أحياء ليس مجرد واجب، بل هو احتياج جماعي لنعيد رسم ملامح هويتنا الثقافية. لنؤكد أن الإبداع لا يموت، بل يحتاج إلى أضواء من يُحيونه، ويُعبرون عن حبهم وتقديرهم لأصواتهم وأعمالهم. لنعترف بأن لكل اسم قيمة، وأن كل وجه يحمل قصة تستحق أن تُروى قبل أن يصبح جزءًا من التاريخ.

هل يستحق رحيل نعيمة سميح أن نكتب بضع كلمات رثاء، ونذرف قليلاً من الدموع، ثم نطوي صفحتها ونلتفت إلى حيواتنا كأن شيئًا لم يكن؟ أليست تلك الروح المبدعة التي ملأت قلوبنا وأصواتنا بأغانيها تستحق أكثر من ذلك بكثير؟

إن رحيل نعيمة سميح ليس مجرد غياب اعتيادي لاسم عابر وُلِد في زمن ما ثم انطفأ حين وهن الجسد. إنه فقدان يُسجل في الذاكرة كخسارة لروح مبدعة، تركت بصمتها الندية في القلوب قبل أن تلامس صفحات التاريخ.

في كل عرض، كانت تتألق على خشبة المسرح، كأنها نجمة تسكب ضوءها في كل زاوية، بقفطانها الذي ينساب بأناقة، ونظراتها التي تحمل عناوين أغانيها كأنها قصائد حب تُكتب في الهواء.

كانت تشع طاقةً لا تُقاوم، وتمنح الحضور شعورًا بأنهم جزء من تجربة عميقة ومؤثرة، تاركةً أثرًا لا يُنسى في الذاكرة، كأن كل أغنية هي شهادة على رحلة حياة مليئة بالمشاعر المتباينة، حيث يجتمع الجرح والفرح في سيمفونية واحدة.

ياك أ جرحي! جريت وجاريت

حتى شي ما عزيتو فيك

واسيت وعالجت وداويت

واسيت وعالجت وداويت

وترجيت الله، الله يشافيك

تروي لي والدتي عن نعيمة سميح، عن لحظة بدت منقوشة في القلب والذاكرة. تتألق عيناها بانتعاشة خارقة، وهي تحكي لي عن أغنية “جريت وجاريت”. تتذكر والدتي أنها كانت مع والدي في زيارة قصيرة للمغرب ذات عام، حين أعلنت المذيعة في تلك الأمسية العطرة أن نعيمة سميح ستغني لجمهورها العريض بعد أن شُفيت من المرض، بعد عملية جراحية كللت بالنجاح.

أجرحي واليوم، واليوم تهديت

ولا فهادي حتى واحد، حتى واحد

حتى واحد ما ينوب أ لحبيب عليك

ما ينوب أ لحبيب عليك

تتحدث والدتي بصوت مليء بالعاطفة، وكأن الزمن يعود بها إلى تلك اللحظة السحرية. كانت الأجواء مفعمة بالحماس، والقلوب تنبض بالفرح والتشوق لرؤية تلك الفنانة التي أحبها الجميع. تتذكر كيف اجتمع الأهل والأصدقاء حول التلفزيون، وكيف أن كلمات الأغاني كانت تتسلل إلى أرواحهم، وكأنها تروي حكاياتهم وجراحهم، وتلامس شغاف قلوبهم.

آ حرشات عليا لشواق

سلطات عليا لحماق

ڭالت ليا، “هذا لفراق لا تنتظرشي يرفق بيك”

آه حبيبك وحدو اللي دواك الشافي عندو

ياخدك للجنة بيدو

أو فجهنم يخليك

تتحدث عن الطريقة التي غنت بها نعيمة، وكأن صوتها يحمل في طياته كل معاني الحياة، حيث مزجت بين الحزن والفرح، وتركت أثرًا لا يُنسى في نفوس من استمعوا إليها. كانت تلك الأمسية بمثابة احتفال بالعودة، وباستعادة الأمل، حيث استحضر صوتها الجميل ذكريات الطفولة والأحلام، وكأنها كانت ترسم لوحات من المشاعر في عقول كل من حضر.

وڭالوا ليا، “غيّر المكان

جرّب، حاول تنسى ما كان”

أ وڭالوا ليا، “غيّر المكان

جرّب، حاول تنسى ما كان”

“ارحل، خليهم فأمان

اليوم لِهم وغدا ليك”

كان جوابي بسكاتي

عرفوني مواهبة لِك حياتي

فالماضي والحاضر والآتي

ونتا تصرف ولا عليك، ونتا تصرف ولا عليك

وفي كل مرة تروي فيها والدتي هذه القصة، أشعر وكأنني أعيش تلك اللحظة معها، وأستطيع أن أرى بوضوح كيف أن نعيمة سميح لم تكن مجرد فنانة، بل كانت رمزًا للشفاء والأمل، تترك في قلوب محبيها بصمات لا تُنسى. إن كلماتها لا تزال تتردد في ذاكرتنا، وكأنها تنبض بالحياة، تجعلنا نعيش من جديد لحظات الفرح والألم، وتذكرنا بأن الفن هو روح تتجاوز حدود الزمن.

وهي تحكي، كانت والدتي تتوقف طويلاً عند الدموع التي كانت تنساب من عيون النساء، تتراقص مع كل بحّة دافئة يجود بها صوت نعيمة سميح عليهن وهن يعانقن جراحهن. كانت تلك اللحظات كأنها تنبض بالحياة، حيث اختلطت المشاعر بين الفرح والحنين، وكأن صوت نعيمة كان بمثابة ضوءٍ يضيء دروب الذاكرة.

تصف والدتي كيف كانت النساء يجتمعن حول التلفزيون، يترقبن بشغف كل نغمة، ويعبرن عن مشاعرهن بدموعهن التي كانت تتناغم مع الكلمات، وكأنها تنفيس عن آلام وأحلام غامرة. كانت تلك الدموع تروي قصصًا لا تُحكى، وتحكي عن صبرهن وقوتهن، في لحظات تجلى فيها الفن كعلاج روحي يداوي الجراح.

تسترجع والدتي كيف أن نعيمة، بصوتها الرخيم، كانت تُعيد الأمل إلى القلوب، وكأن كل أغنية تُعيد تشكيل أحلام النساء، وتمنحهن القدرة على مواجهة الحياة بكل صعوباتها. كانت تلك اللحظات تجسيدًا لمزيج من القوة والضعف، حيث كانت النساء يستقبلن أصواتهن المتعالية بدموعهن، ويتشاركن معًا رحلة الألم والأمل، تحت ظل تلك النجمة التي أضاءت لياليهن بأغانيها الساحرة.

فهل تستحق نعيمة منا بضع كلمات؟ هل ستسامحنا سميح على هذا الحيف الذي طالها في حياتها وموتها؟ أم أن أسئلتنا ستظل معلقة، تتردد أصداؤها دون إجابة؟ ألم يحن الوقت كي نبدل نحن المغاربة نظرتنا للحياة ورؤيتنا للموت، وطقوس احتفائنا بالأسماء والوجوه التي احترقت لتضيء دروب وجداننا الجماعي؟

علينا أن نعترف بأن نعيمة، وغيرها من المبدعين، لم يكونوا مجرد أسماء تُنسى في زحام الحياة، بل هم شعلة تضيء أرواحنا، تمنحنا الإلهام والأمل في كل لحظة. آن الأوان لنستعيد تلك الأسماء، لننقشها بمداد الحب والامتنان في ذاكرتنا الجماعية، ولنحتفل بذكراهم كما يحتفل الفرح بالعودة.

نريد أن نكون شعباً يعرف كيف يجزي أحبته، وكيف يحتفي بهم. لنمنح الراحلين ما يستحقون من تقدير واعتراف. علينا أن نعيد بناء طقوس الاحتفاء، وأن نعرف كيف نُعلي من شأن من أضاءوا لنا الطريق، فليكن صوت نعيمة سميح، وصوت كل من عشقناه، نقشًا أطلسيًا على صخر ذاكرتنا، يُسجل حكاياتهم، ويُبقي شعلة إبداعهم حية، تدفئ قلوبنا وتلهم أجيالنا القادمة. لنكن الجسر الذي يصل بين الحاضر والماضي، لنُشيد معًا ذاكرة ثقافية تُكرّم الفنون، وتعيد الأمل إلى كل من ينسى في زحام الحياة.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق