بلغات متعددة، توالت المقالات والشهادات التي نعت محمدا بن عيسى، مؤسس أحد أبرز المنتديات الفكرية المغربية ذات الإشعاع العالمي “موسم أصيلة الثقافي”، الذي شغل مناصب بارزة؛ من بينها وزير الخارجية، ووزير الثقافة، وسفير المغرب بالولايات المتحدة الأمريكية.
بن عيسى، الذي رأى النور بأصيلة ووري ثراها بعد ثماني وثمانين سنة بدنيا الناس، كان أكثر نعيه نعيا لمؤسس “موسم أصيلة الثقافي”، وتذكرا لما يربو نصف قرن من النقاش الفكري والأدبي والسياسي في رحابه، وتتويج الشعر والرواية، وتجديد الجداريات، وجلسات النقاش الثقافي والتاريخي بداره، بعد اختتام الأنشطة المبرمجة، في الموعد الذي كان يستمر شهرا إلا أياما معدودة.
وقد توجت مؤسسة الفكر العربي الراحل بـ”جائزة مسيرة العطاء” سنة 2014، وقدمت له المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم “درع الألكسو”؛ “تقديرا لدوره التنظيمي في منتدى أصيلة السنوي”. وكرمت جائزة “سلطان بن علي العويس الثقافية”، في دورة سنة 2021، “مؤسسة منتدى أصيلة” المنظمة لموسم أصيلة الثقافي بجائزة “الإنجاز الثقافي والعلمي”. وتوجت “جائزة الشيخ زايد للكتاب” محمدا بن عيسى بـ”شخصية العام الثقافية سنة 2008″؛ “لما له من دور هام في تأسيس (مهرجان أصيلة للفنون والثقافة والفكر)، وجعله ملتقى للمبدعين والمفكرين العرب والأفارقة والغربيين، ومنارة تتحول بها بلدة عربية بسيطة إلى نموذج مبدع للقرية العالمية في العصر الحديث، بدأب استمر ثلاثة عقود دون توقف ولإسهاماته في إنعاش الحياة الثقافية المغربية، ووصلها الحميم بالثقافة العربية والإنسانية”.
أصيلة… الرمز
نعى عمرو موسى، الأمين العام السابق لجامعة الدول العربية، “الصديق العزيز محمدا بن عيسى، وزير ثقافة وخارجية المغرب الشقيق، وعمدة مدينة أصيلة، ومضيف ندوتها السنوية التي جمعت العديد من أدباء وساسة وخبراء العرب”، مردفا: “كان حديثه طليا، وحجته قوية، وجلساته ممتعة، وصداقته متينة”.
المفكر الموريتاني عبد الله السيد ولد أباه كتب أن “ثمة مدنا يمكن وصفها بأنها مدن رمزية، هي أقرب إلى المفاهيم منها إلى الحواضر؛ مثل أثينا في العصر اليوناني القديم التي تحيل إلى الفلسفة والديمقراطية، والقدس التي هي مدينة التوحيد والديانات السماوية، وفينيسيا الإيطالية التي ترمز لعصر النهضة الأوروبي. من بين هذه المدن ‘أصيلة’ في شمال المغرب التي تحولت خلال الأربعين سنة الأخيرة إلى مركز ثقافي وفكري عالمي، تلتقي فيه سنويا وجوه الثقافة والفكر من كل أصقاع العالم، للتداول في موضوعات الساعة ومستجدات الشأن الاستراتيجي والاجتماعي العربي والأفريقي والدولي”.
وأضاف: “أسس هذا التقليد ابن مدينة أصيلة محمد بن عيسى الذي رحل مؤخرا بعد أن أفنى عمره في التقريب بين الثقافات والحضارات، وحوّل مدينته إلى ملتقى نشط بين ذوي الرأي والفكر من العالم العربي وإفريقيا وأوروبا. (…) من النادر أن تلقى مثقفا عربيا وإفريقيا أو غربيا كبيرا لم يشارك في مهرجان أصيلة في أحد مواسمها الغنية بالنقاش الفكري المفتوح والحر. (…) أصيلة هي أيضا مدينة الفن التشكيلي على المستوى المغربي والعربي، بجدارياتها في الشارع ومراسمها المفتوحة ومراكز تدريب الأطفال والشباب التي خرجت عشرات الفنانين المعروفين. كما أن أصيلة هي مدينة الإبداع الأدبي، وقد أسندت جوائز كبرى للاحتفاء بالشعراء والروائيين، كما كرمت الكثير من رموز العلم والثقافة والفكر من داخل المغرب وخارجه”.
سياسي مثقف
الكاتب الصحافي معن البياري، كتب، من جهته، “اتسعت جمهورية أصدقاء محمد بن عيسى وخرائطها؛ فعلاقاته الوثيقة مع مفكرين وسياسيين ودبلوماسيين وفنانين وأدباء في إفريقيا تدهشك، وهو الذي كان يلح على وجوب أن يكترث العرب بهذه القارة، بشعوبها وثقافاتها وحضاراتها (سمعته قبل أعوام يذكرنا بأن ثلث الدول العربية في إفريقيا). (…) ولم تتأت صداقاته العربية والدولية العريضة فقط من إقاماته في دول عديدة، ومن أسفاره، ومن حرصه على جسور بناها مع شبكات لا حدود لها من المثقفين والفنانين الدبلوماسيين، وإنما أيضا من ملكاته المتفردة، وإلا دلونا على سياسي عربي يحفظ قصائد هايكو يابانية بالإنجليزية، فيفاجأ بهذا شاعر ياباني سمع منه هذا”.
هذه القصة رواها أيضا الصحافي والشاعر جمال بدومة الذي خط أن الراحل “كان رجلا استثنائيا، جمع بين السياسة والثقافة والدبلوماسية، مع كثير من الحنكة والحكمة والقدرة الخارقة على التواصل”، ثم تذكر: “استطاع أن يكون صديقا للمبدعين والفنانين والإعلاميين من مختلف المشارب، بفضل حسه الفني ولباقته وثقافته الواسعة، التي أدهشت كل من عرفه عن كثب. كنا مرة في بيته على هامش إحدى دورات ‘منتدى أصيلة’، بعد تكريم جميل للشاعر محمد بنيس، وتشعب الحديث حول الشعر والأدب، ونحن في ركن مع الشاعر الياباني بانيا ناتسويشي ونظيره الأمريكي بيير جوريس، اللذين حضرا لتكريم صاحب “مواسم الشرق”، وفجأة شرع محمد بن عيسى في ترتيل قصائد هايكو بالإنجليزية، يحفظها عن ظهر قلب؛ مما جعل الشاعر الياباني، المتخصص في هذا اللون الشعري، يبدي إعجابه ويطلب منه إعادة واحدة منها… لا أعرف كثيرا من السياسيين يحفظون قصائد بالإنجليزية ويملكون ربع ثقافة الراحل!”.
ثم استرسل قائلا: “بدأ محمد بن عيسى مسيرته بالفن والإعلام، قبل أن يدخل معترك السياسة ويصبح برلمانيا ثم وزيرا للثقافة وسفيرا في الولايات المتحدة الأمريكية ووزيرا للخارجية ورئيسا لبلدية أصيلة… وطوال مساره السياسي الحافل ظل وفيا لمشروع حياته: “موسم أصيلة الثقافي” (…) هذه الفكرة العبقرية التي ربطت تنمية المدينة بالثقافة والإبداع. وأعتقد أن مفتاح نجاح بن عيسى يكمن في تجربته الأمريكية، حيث درس “التواصل” في زمن لم يكن فيه غالبية الناس يعرفون معنى الكلمة، في الستينيات، وتعلم أن الفرد يمكن أن يفكر خارج الصندوق، ويحقق ما يؤمن به من أفكار، مهما كانت العراقيل والعقبات، والأحكام الجاهزة. بعد تجربة ثرية في عدد من المنظمات التابعة للأمم المتحدة، في أمريكا وأوروبا وإفريقيا، عاد إلى البلاد في منتصف السبعينيات ليستقر في مسقط رأسه، ويطلق مشروع حياته، الذي سيحول مدينة ساحلية مغمورة إلى عاصمة ثقافية مشهورة”.
لكن كان من بين العراقيل “العمى السياسي” الذي “جعل مثقفي اليسار يخوضون حرب ‘داحس والغبراء’ ضد مهرجان أصيلة، منذ ولادته في نهاية السبعينيات. يومها، كانت “العلم” و”الاتحاد الاشتراكي” تصنعان “المطر والجو المشمس”، وكان صحافيوها يشنون حملة شعواء ضد “الموسم” كل سنة؛ فقط لأن مؤسسه ينتمي إلى “التجمع الوطني للأحرار”، والثقافة لا يمكن أن تخرج إلا من حزبي “الاتحاد الاشتراكي” و”الاستقلال”، اللذين كانا يسيطران على كل مفاصل المشهد الثقافي، أيام كان المغرب بالأبيض والأسود”، والمفارقة هي أن الموعد “كان يجمع عددا كبيرا من المثقفين العرب، المحسوبين على اليسار والمعسكر التقدمي، مثل محمود درويش والطيب صالح وبلند الحيدري وأحمد عبد المعطي حجازي وقاسم حداد… مما كان يجعل زملاءهم المغاربة (…) يعيشون حالة من السكيزوفرينيا، إذ كانوا يهاجمون المهرجان، مع تجنب النيل من ضيوفه. وعندما دخل “الاتحاد الاشتراكي” إلى “بيت الطاعة” في نهاية التسعينيات، توقفت حملاته ضد المهرجان، وضعت الجريدة سلاحها، واعترف معظم مثقفيه بأنهم أخطأوا في حق “الموسم”، وقدموا نقدا ذاتيا”.
ما تبقى “لنا”
قال الكاتب الصحافي لحسن لعسيبي إن “ما يتبقى هو الأثر”، و”برحيل محمد بن عيسى فقد المغرب ‘علامة ثقافية’ بصمت ذاكرة الناس وذاكرة الأمكنة مغربيا، مغاربيا، عربيا، متوسطيا وإفريقيا”، ثم زاد: “لقد منح لبلدته أصيلة أن تصبح منارة توجه إبحار الكثير من المعاني عبر قارات الجنوب، هي الفقيرة لكل شيء، الغنية بالإرادة… نعم نجح الرجل في أن يعلم الجميع أن الثقافة مصدر غنى، أنها ثروة أهم من باقي ثروات نظام السوق… الآن فقط وهو يقتعد كرسي الغياب، نعيد اكتشاف سيرة الرجل ومنجزه”.
أما الشاعر اللبناني شوقي بزيع، فكتب بصيغة المخاطب صديقه الراحل: “كما عمل السياب على تحويل قريته جيكور، المنسية بين نخيل أبي الخصيب، إلى محجة دائمة للكتاب ومحبي الشعر، وتحويل نهر بويب الصغير إلى أسطورة، أخذت أنت على عاتقك في أواخر سبعينيات القرن المنصرم، ومعك ثلة من أترابك الفنانين، المهمة ذاتها والهدف النبيل إياه، جاعلا من موسم أصيلة الثقافي مسرحا مفتوحا للأدب والفكر والفن، ومنصة دورية للتنوير، يتنادى لإذكاء شعلتها مثقفون وسياسيون ومبدعون، قادمون من أربع رياح الأرض”.
عبد الصمد بن شريف، الإعلامي الذي يدير القناة الثقافية المغربية، أورد أن بن عيسى قد “استطاع توظيف الخيال والثقافة والإبداع وتحويلها موارد للتنمية، عندما حوّل مدينته الصغيرة منتدى عالميا لحوار الثقافات والحضارات، والتداول في القضايا الكبيرة والاستراتيجية والمصيرية، في عالم يتغير باستمرار، ويتحول بإيقاع مدهش. وكيفما كانت مشاعر التقدير والإشادة بمناقب الراحل وصفاته، فإن رجلا من العيار الثقيل غاب من الساحة الثقافية المغربية، والعربية والأفريقية والدولية، وعن مدينته أصيلة”.
وتطرق بن شريف لشيء من الولادة “الصعبة والمؤلمة” لـ”موسم أصيلة الثقافي”؛ فقد “انبثق هذا المشروع وسط تجاذبات سياسية حادة. ويحكي بن عيسى أنه بعد أن سافر وتجول ودرس واشتغل في أكثر من مؤسسة، في الأمم المتحدة وفي منظمة الأغذية والزراعة (فاو)، عاد إلى مدينته فوجدها في وضعية متردية في المستويات كلها. ومع التشكيلي الراحل محمد المليحي، رفيق دربه، تساءلا: ماذا يمكن أن يفعلا لأصيلة؟ لقد اقتنع اثناهما بأنه آن الأوان ليحققا شيئا لهذه المدينة. لكن كيف؟ اقترح المليحي على صديقه الترشح للانتخابات المحلية سنة 1976. ورغم أنه لم يفكر قط في الانخراط في الشأن السياسي، فقد ترشحا ونجحا معا. وفي 1977، طلب أصدقاء ومعارف من بن عيسى أن يترشح للانتخابات التشريعية. وفضل أن يتقدم مستقلا من دون لون حزبي معين، وفاز. عندها، تساءل مع المليحي عن الآلية التي يمكن بها إنقاذ أصيلة، فاستقر الرأي على تأسيس جمعية المحيط سنة 1978”.
وفي سنة 1979، جمع بن عيسى “محمودا درويش وأدونيس وأحمد عبد المعطي حجازي؛ ليتحدثوا عن تجاربهم وأشعارهم وإبداعهم، بحرية وعفوية. كانت أصيلة تتلمس الطريق، وكانت أطياف اليسار المغربي ترى في مهرجانها تجمعا للثقافة الرجعية أو المخزنية التي ترعاها الدولة. وكان سلاح بن عيسى، في مغامرته المجنونة بالمعنى الإبداعي، الصبر والثبات ودعم قوي من المؤسسة الملكية. وخلال أكثر من 40 سنة، أنتج موسم أصيلة جيلا بكامله، تربى في أحضان الفن والثقافة والحوار والانفتاح على الآخر. (…) تغير اليوم كل شيء، لأن مواقف الماضي كانت تبنى على عدم إدراك قيمة ما كان يؤديه وأهميته. (…) وحتى ‘اتحاد كتاب المغرب’ كان يقاطع الموسم؛ لكن أعضاء فيه ما طفقوا يشاركون في الموسم ابتداء من منتصف الثمانينيات، خاصة لما لاحظوا قيمة ما يناقش، وحجم (ووزن) الأسماء الكبيرة التي كانت تحج إلى أصيلة. وبعد أكثر من أربعة عقود، أصبح موسم أصيلة منصة دولية للنقاش الفكري والثقافي والسياسي والاستراتيجي والفني وتكريم المبدعين ومنح الجوائز وتحفيز الطاقات والاهتمام بالمجتمع المدني المحلي وتتويج المتميزين فيه”.
من دبلوماسي إلى آخر
نعى أحمد ولد سيد أحمد، وزير الخارجية الموريتاني السابق، محمدا بن عيسى، قائلا: “التقيت لأول مرة بالوزير والسفير محمد بن عيسى سنة 1997م في واشنطن حيث كان سفيرا للمملكة المغربية وكنت سفيرا للجمهورية الإسلامية الموريتانية لدى الولايات المتحدة الأمريكية؛ ولكني كنت قد سمعت عنه قبل ذلك وعن زيارته لموريتانيا بصفته وزيرا للثقافة لتدشين المسجد المعروف الآن بـ”مسجد المغرب” في العاصمة نواكشوط رفقة زميله الموريتاني المرحوم محمد سالم ولد عدود. (…) وتشاء الأقدار بعد ذلك أن يتم تعيين كل منا وزيرا للخارجية لبلده، أنا في أواخر سنة 1998 وهو في بداية سنة 1999. وقد عملنا جاهدين على النهوض بالعلاقات الموريتانية – المغربية وتطويرها وتنويعها. وقد كللت تلك الجهود بالزيارة الناجحة التي أداها فخامة الرئيس معاوية ولد سيد أحمد الطايع إلى المملكة المغربية في أبريل 1999. وبعد تعييني وزيرا للخارجية مرة ثانية، سعدت بلقاء الوزير بن عيسى حين دعاني إلى المشاركة في فعاليات موسم أصيلة سنة 2006؛ فرأيت على الطبيعة كم كان صادقا حين كلمني في مكتبه بواشنطن عن نجاح هذه التظاهرة العالمية، التي شكلت وما زالت تشكل قنطرة ثقافية وفنية بين العالمين العربي والإفريقي وبينهما وباقي البلدان حول العالم”.
ميغيل أنخيل موراتينوس، وزير خارجية إسبانيا الأسبق، كتب من جهته أن بن عيسى لم يكن رجل سياسة فحسب؛ “بل رجل ثقافة بامتياز. (…) نشأ في بيئة متعددة اللغات، فدرس في مدرسة “إل بيلار” حيث تشرب العادات والتقاليد الإسبانية، مما جعله أحد أكثر وزراء المغرب إتقانا للغة الإسبانية وفهما لثقافتها”.
وسجل موراتينوس أن أصيلة “كانت أكثر من مجرد مسقط رأس لمحمد بن عيسى؛ بل كانت انعكاسا لرؤيته العميقة للدبلوماسية الثقافية. والمهرجان الذي أسسه لم يكن مجرد تجمع فكري؛ بل منصة للحوار والتقارب الدولي”.
الدبلوماسي والإعلامي السعودي تركي الدخيل كتب، في مقال، أن محمدا بن عيسى قد رحل “بعد حياة حافلة بحضور سياسي لافت، وتألق ثقافي ثابت، وإنسانية جعلت الراحل شخصية عربية تحظى باحترام القاصي والداني، في المجالات كافة”.
وأضاف الدخيل: “الحق أنه جعل من أصيلة، مركزا حضاريا، وموئلا للثقافة والفنون وحوار الحضارات، منذ أسس هو وصديقه الفنان المغربي الراحل محمد المليحي، قبل نحو نصف قرن، مهرجان أصيلة الثقافي الدولي، الذي يحتضن كل عام فعاليات ثقافية وفنية وحضارية، أهلته ليكون واحدا من أهم المهرجانات الثقافية في العالم العربي وإفريقيا. وإذا كانت مدينة أصيلة حاضرة على خارطة المغاربة، فلقد وضعها بن عيسى رحمه الله، على خارطة الثقافة، لا عربيا فحسب، بل عالميا، حيث تبنى مهرجان أصيلة الثقافي الدولي، حوارات فكرية، أسهمت في تعزيز المشترك الإنساني، والتقارب الفكري والمعرفي بين الشعوب”.
أما مستشار ملك البحرين نبيل الحمر، فدوّن: “سي محمد بن عيسى… الصديق والأخ الوفي… هذا الرجل الذي جعل من أصيلة مدينة تجمع المفكرين والساسة والأدباء العرب، تجمعهم بالفكر التنويري الذي أراده بن عيسى نهجا أصيلا، ينير فضاءات العرب… تجمعنا معه من كل بلاد العرب… تحدثنا وتناقشنا وكان بن عيسى يدير حواراتنا بأريحة قلبه الذي يسع الجميع”، قبل أن يختم برقن: “(أصيلة) بن عيسى تجمعنا في منتداها المشرقي والمغربي في كل عام، ويحرص هو شخصيا على ان يحضر الجميع في تناغم فكري جميل، ونتنادى إليه من كل بلد؛ بمثل ما يحب في أن يرى الجميع يتحومون في دوائر النقاشات الحرة، والمنفتحة على كل الاتجاهات”.
مستقبل أصيلة
كتب الشاعر السنغالي البارز أمادو لامين صا أن الراحل قد “كان أكثر من صديق، وأحب بلاد سنغور. وكان روح المغرب! (…) كان الأجنبي الوحيد الذي حضر جنازة شاعر الكونغو تشيكايا أوتامسي! ولا وزير ثقافة إفريقي! عندما عاد إلى بلده المغرب، أطلق المهرجان الكبير للشعر بأصيلة (…) وسماه باسم تشيكايا أوتامسي، الذي كان صديقه وأحب أصيلة. وأشرف بأني ممن حصل على هذه الجائزة”.
فيما ذكر الروائي والصحافي اللبناني أحمد علي الزين أن “سنوات من الجمال والحب والحوار والإبداع جمعتني بالصديق الوزير محمد بن عيسى في مدينته المغربية الحميمة أصيلة، التي زرتها للمرة الأولى في أوائل ثمانينيات القرن الماضي، أذكرها كانت بلدة منسية على غروب المحيط، جعلها سي بن عيسى، كما كنا نناديه، قارة من المعرفة والإبداع، حدائق تحمل أسماء مبدعين من مشرق البلاد ومغربها، أزقة تتنافس في جمالها وأحواض زهورها وزرقة شبابيكها، وجدران بيوتها وحاراتها التي حولها التشكيليون إلى جداريات جعلت من المدينة معرضا دائما في الهواء لكل عابر ومقيم (…) هكذا جعل محمد بن عيسى من بلدته التي أحب مقاما ومزارا لعشاق وذواقة الجمال، ومنصة للحوار للحري وللتفكير وللتأمل، جمع العالم كله في مدينته القديمة الساحرة؛ ليتحاور ويتفاعل، ليصغي إلى الآخر، مثلما يصغي إلى الموسيقى، واللوحة، والقصيدة، والكتاب، والبحر، وليل المدينة”.
كذلك، كتب محمد البشاري، أمين عام المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة، عن “أصيلة، تلك المدينة التي لم تكن مجرد مسقط رأس محمد بن عيسى، بل كانت حلمه الذي ناضل ليجعله واقعا. عندما زرتها لأول مرة في الثمانينيات، وجدتها بلدة هادئة متكئة على المحيط، بشوارع ضيقة وأزقة تحمل رائحة البحر، لكنها كانت تحمل في جوهرها شيئا استثنائيا. تحت رؤية بن عيسى، تحولت أصيلة إلى فضاء ثقافي عالمي، حيث تتداخل الفنون مع الفكر، والموسيقى مع السياسة، والشعر مع النقاشات الحادة حول مصير العالم العربي. في كل زاوية منها، بصمة فنان، في كل شارع، صدى لحوار لم ينته، وفي كل موسم ثقافي، لقاءات تجمع الساسة بالمثقفين، لتطرح الأسئلة التي لا تجرؤ المنابر الرسمية على طرحها”، لأن مبادر الموسم “كان محاورا بالفطرة، رجلا لا يبحث عن الإجماع، بقدر ما يسعى إلى توسيع دوائر النقاش. لم يكن يخشى الخلاف، بل كان يرى فيه ضرورة لتطوير الفكر”، ولهذا “عندما رحل، لم يخسر المغرب رجل دولة فحسب، بل فقد أحد مهندسي الحوار الثقافي، أحد الذين آمنوا بأن الثقافة ليست ترفا، بل سلاحا في مواجهة الانغلاق”.
وتذكر شرف الدين ماجدولين، الأكاديمي والناقد التشكيلي المغربي، “الفقيد الكبير الأستاذ محمد بن عيسى، الذي شيعه أهله وأصدقاؤه من رجالات دولة وكتاب وفنانين وإعلاميين، وأناس بسطاء، وساكنة أصيلة، إلى مثواه الأخير”، ومعه طوى الناعي “صفحة خصيبة من عمر الصداقة الإنسانية، والعمل الثقافي، تعلمت منها الكثير، واكتشفت فيها أسماء ونصوصا واختيارات فنية، وعمقت فيها معرفتي بمشاهد أدبية وفنية من أصقاع شتى، ونهلت فيها، قبل ذلك وبعده، من دفق إنساني نادر للفقيد وخياله الكبير، هو الذي لم يفتر يوما عن أن يكون قارئا نهما للآداب والفكر والتاريخ، ومتلقيا عارفا بالفنون البصرية وممارسا لها، ومستمعا مرهف الحس لموسيقى العالم.
الكاتب الصحافي المغربي توفيق بوعشرين، كتب بدوره حول “السيد محمد بنعيسى، الوزير والسفير والبرلماني، ورئيس بلدية أصيلة وعراب موسمها الثقافي الشهير موسم عمر لمدة 44 سنة، وقبل هذا وبعده، رجل الثقافة والإعلام والحوار والإنصات للآخر، مهما اختلف معه في الرأي والموقع والموقف”، الذي “فضل أن يجعل من مدينته أصيلة وموسمها الثقافي الغني أكاديميته الخاصة، التي يتحرك في وسطها بحرية، دون قيود أو محاذير لا يحتملها المجال الثقافي والإبداعي، المطبوع أساسا بالاختلاف والتعددية وحرية القول والفكر والرأي”، وقد كان “قريبا من مجتمع الصحافيين والمثقفين والأدباء والفنانين أكثر من قربه من مجتمع السياسيين والدبلوماسيين، حتى وإن كان هو نفسه واحدا منهم. (…) كان بيته ومائدته قبلة دائمة للصحافيين والمثقفين والأدباء والفنانين، من الشرق والغرب، ولم يكن يرتاح إلا في وسط هذه الشلة لأنه كان فهم لغتها وتفهم لغته”.
فيما نبه الكاتب الصحافي حاتم البطيوي إلى أن “بن عيسى هو فكرة، والفكرة لا تموت، وأن غيابه الجسدي لا يعني غياب أفكاره ورؤاه، التي ستظل حاضرة بقوة وملهمة للأجيال القادمة في أصيلة وغيرها”.
وأضاف البطيوي: “ما قام به بن عيسى في مسقط رأسه هو، في نهاية المطاف، إنجاز يصب في صالح الإنسان. ومن ثم، فإنه، إلى جانب البعدين الثقافي والسياسي اللذين ميزا شخصيته الفذة، كان البعد الإنساني هو الأساس في مسيرته المتميزة. فمنذ انطلاقة مشروعه الثقافي والتنموي في أصيلة، راهن بن عيسى على الطفل باعتباره عماد المستقبل، وحرص على أن ينشأ في بيئة نظيفة تساعده على الإبداع، وتمكنه من النظر إلى العالم بروح إيجابية مفعمة بالجمال والفن. (…) وها هي أصيلة اليوم قد وصلت إلى مفترق طرق… فإما أن تكون وإما لا تكون. واستمراريتها مسؤولية جماعية تتطلب عناية استثنائية من الدولة، حفاظا على روح المدينة وإشعاعها الذي امتد إلى مختلف الآفاق، وأيضا حماية للصورة التي قدمتها في الخارج عن المغرب المنفتح والمتعدد والواعد”.
أما الأديب أحمد المديني فكتب عن رحيل “أحد أهم رموز الاستنارة الفكرية، والريادة التنموية للمغرب الحديث والمعاصر”، الذي “ابتكر رؤية للعمل الثقافي، وإحياء المدينة وتحويلها إلى قطب جامع للعيش الكريم والتفكير الخلاق واللقاء الحضاري والإنساني”، بما توفر عليه من “الموهبة والإرادة والإيمان والمثابرة والشخصية الجذابة، والخصال الرفيعة، وكذلك بالدعم الرسمي، ومن أطراف عربية آمنت بمشروعه”.
ثم أردف قائلا: “واليوم بعد أن غيبه القدر المحتوم، تبقى مساندة الجهات الرسمية في المغرب مطلوبة أكثر في نهج تعزيزها للعمل الفعال للمجتمع المدني، يعد منتدى أصيلة من أعمدته المؤسسة منذ نصف قرن تقريبا؛ لكن ليست الدولة وحدها المطالبة باستمرار رعاية الدور الثقافي والتنموي للمنتدى، معها وقبلها الهيئات والطلائع الفكرية والفنية والسياسية والمجتمعية التي شاركت في هذا المحفل المغربي العربي الدولي، ورسخت أعمدته، وأصبح محجا عالميا للتنوير والفكر الحر والحوار بين الثقافات”.
وختم الأديب أحمد المديني بالقول: “الجميع ينبغي أن يتعبأ ويتنظم بطرق يتشاور حولها للاستمرار، ولضخ دم جديد في التراث العظيم الذي أرساه الرائد الراحل محمد بن عيسى”.
0 تعليق