المغرب.. تحولات جيوسياسية متسارعة ونفوذ متزايد
شهدت استراتيجية المغرب الدبلوماسية تطورًا ملحوظًا في السنوات الأخيرة، لا سيما في علاقاته مع فرنسا والجزائر، فضلا عن طموحاته الجيوسياسية الأوسع. ورغم أن العلاقات بين المغرب وفرنسا كانت تاريخيًا قائمة على أساس التعاون المشترك وفق تصورات فرنسية بالأساس، بسبب الماضي الاستعماري، إلا أن هذه الديناميكيات بدأت تتغير في الآونة الأخيرة.
أوجه التحول في العلاقات مع فرنسا
في بلاطو إخباري خصص لمناقشة الأزمة الحالية في العلاقات بين الجزائر وفرنسا على قناة “فرانس 24” بعنوان: “فرنسا-الجزائر: نحو القطيعة؟” بتاريخ 13 يناير 2025، أشار الصحفي الفرنسي المتخصص في الدراسات الإفريقية أنطوان غلاسر، بنبرة فيها الكثير من الحسرة، إلى أن التحول في موقف فرنسا بشأن سيادة المغرب على الصحراء حدث لأن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لاحظ أن “إسبانيا وألمانيا قد عززتا شراكتهما مع المغرب بعد اعترافهما بسيادته على الصحراء”، في حين ظلت فرنسا مستبعدة من هذه الشراكات مع هذا الحليف القديم.
وأوضح غلاسر أنه بعد طرد فرنسا من منطقة الساحل، لجأ ماكرون إلى المغرب من أجل البحث عن فرص تجارية واقتصادية جديدة وإعادة تموضع فرنسا جيوسياسيًا في إفريقيا. وأضاف أن فرنسا لم تعد تعتمد على الجزائر في التعاون الأمني في منطقة الساحل، حيث أن دعم الجزائر للمتمردين الطوارق قد أدى إلى توتر علاقاتها مع القيادة الجديدة في مالي. وفي هذا السياق، سعى ماكرون إلى استعادة نفوذ فرنسا في المنطقة من خلال التحالف مع المغرب، الذي أصبح حليفًا قويًا لتلك الدول التي طردت القوات الفرنسية في وقت سابق، حيث يعرض عليها اليوم منفذًا على المحيط الأطلسي.
الصحراء كقضية جيوستراتيجية
خلال طاولة النقاش هذه، خلص الصحفي الفرنسي إلى أن التوتر المستمر بين فرنسا والجزائر لا يتعلق في الأساس بقضايا ثنائية، بل إن القضية الرئيسية التي تغذي الخلاف هي الصحراء. كما قال: “الفيل في الغرفة هو الصحراء”. وخلص إلى أن الصحراء هي القضية الجيوستراتيجية الرئيسية في المنطقة التي لها القدرة على إعادة تشكيل الجغرافيا السياسية لشمال إفريقيا. وأوضح غلاسر، وهو على حق في استنتاجه، أن المغاربة، الذين يضعون مصالحهم أولًا، لن يضعوا أجندة فرنسا في إفريقيا فوق مصالحهم الخاصة.
ورغم أنه لا يمكن إنكار استحقاق الصحفي الفرنسي في تقديم تحليله الدقيق للتحولات الجيوسياسية في المنطقة، إلا أن نبرته الانتقادية تجاه المغرب ربما تعود إلى عدم استساغه لتحرك الرباط خارج صندوق تعاملاتها الدبلوماسية التقليدية، بعيدًا عن أنظار فرنسا ودون وضعها في الحساب، وهذا بالطبع أمر صادم ومقلق للصالونات السياسية في باريس. ومن بين أركان تحرك الرباط هذا تعزيز التعاون جنوب-جنوب بشكل أكثر فاعلية وانفتاحًا على دول أخرى كجزء من استراتيجية شاملة، وهو الأمر الذي لم يتوقف عنده الصحفي الفرنسي بما يكفي رغم درايته الجيدة بشؤون المنطقة، ربما لتفادي منح المغرب استحقاقه في هذا التوجه.
طلب المغرب لدعم ملموس
أصبح تحول موقف فرنسا أكثر وضوحًا في أكتوبر 2024 خلال زيارة ماكرون الرسمية للمغرب. في خطابه أمام البرلمان المغربي، بعث الرئيس الفرنسي برسالة دعم قوية لسيادة المغرب على الصحراء المغربية، قائلا: “بالنسبة لفرنسا، فإن الحاضر والمستقبل لهذه المنطقة [الصحراء] يقعان تحت سيادة المغرب”. هذا التصريح جاء تأكيدًا واضحًا لما ورد في رسالته إلى جلالة الملك محمد السادس في 30 يوليوز 2024.
لقد أرخ خطاب ماكرون لمنعطف مهم في العلاقات الفرنسية المغربية. لهذا صفق له النواب المغاربة تصفيقًا حارًا. ولم يكن التصفيق من أجل الدعم الرمزي لموقف المغرب فقط، بل من أجل التزام ماكرون بتقديم دعم ملموس للرباط من خلال الاستثمارات في المنطقة، ومن خلال دعم قوي لخطة الحكم الذاتي في مختلف الهيئات الإقليمية والدولية.
وفي هذا السياق، تعهد ماكرون بأن الشركات الفرنسية ستساهم في تنمية المنطقة، مع التركيز على المشاريع المستدامة التي يمكن أن تفيد السكان المحليين. هذا التحول البراغماتي في السياسة الفرنسية يعكس التزامها بتجديد التحالف مع المغرب على أسس جديدة ووفق منطق الندية والمصالح المشتركة، آخذًا بعين الاعتبار الأهمية الجيوسياسية للبلد كلاعب رئيسي في مستقبل القارة الإفريقية. وقد وصلت قيمة الاتفاقات التي تم توقيعها في تلك الزيارة إلى نحو 10 مليارات يورو، تغطي مجموعة من الاستثمارات والشراكات الاقتصادية، مما يعكس الأهمية المتزايدة للمغرب كقوة إقليمية.
تقوية العلاقات مع الولايات المتحدة وإسرائيل
علاقة المغرب المتجددة مع فرنسا، بعد فترة من التوتر، تم بناؤها على أسس جديدة، حيث حرص المغرب على اعتماد نهج “رابح-رابح” مع تنويع شراكاته مع حلفاء آخرين. وهذا التحول يترجم بتنامي العلاقات المغربية مع قوى عالمية أخرى. في هذا الإطار، سعى المغرب للحصول على دعم أكبر من الولايات المتحدة وإسرائيل في قضية الصحراء، معتمدًا على أوراق يملكها للتفاوض مع الطرفين، وعلى رأسها إعلان إعادة العلاقات مع إسرائيل، وكذا تعزيز التحالف مع واشنطن، التي لن تجد بديلا لحليفها الأوثق في إفريقيا والأقدم في العالم. ففي دجنبر 2020، اعترفت الولايات المتحدة رسميًا بسيادة المغرب على الصحراء، وهو القرار الذي كانت له تداعيات جد إيجابية في أفق حلحلة هذا النزاع المفتعل. تبع ذلك استئناف العلاقات الدبلوماسية بين المغرب وإسرائيل، التي قدمت الدعم العسكري والتكنولوجيا المتقدمة والابتكارات الزراعية، وهي أمور حيوية لاستراتيجية المغرب المستقبلية.
الانفتاح على القوى الدولية الأخرى
ولم تتوقف تحركات المغرب الدبلوماسية عند هذا الحد. فقد عززت المملكة علاقاتها مع كل من الصين وروسيا، اللتين لهما مصالح استراتيجية في إفريقيا. وتعد هذه العلاقات الجديدة مؤشرًا على رغبة المغرب في عدم الاعتماد فقط على حلفائه التقليديين في الغرب. على سبيل المثال، فتحت مبادرة “الحزام والطريق” الصينية مجالات جديدة للتعاون الاقتصادي، بينما أصبحت روسيا شريكًا استراتيجيًا رئيسيًا منذ زيارة الملك إلى موسكو في عام 2016. ويبرز هذا التحالف المتنامي مع الصين وروسيا التزام المغرب بالحفاظ على علاقات قوية مع جميع أعضاء مجلس الأمن الخمسة الدائمين، وهو أمر حاسم في حشد مزيد من الدعم الدولي في نزاع الصحراء.
تعزيز الشراكات في الشرق الأوسط وتأكيد الدور الريادي في شمال إفريقيا
في السياق ذاته، تعكس شراكات المغرب المتزايدة مع دول الخليج، وخاصة مع السعودية والإمارات، نجاح المملكة في التكيف مع التحولات الجيوسياسية في منطقة الشرق الأوسط. هذه العلاقات، التي كانت سابقًا قائمة على روابط الصداقة التي تجمع الأسرة الملكية بالعائلات الحاكمة في هذه البلدان، أصبحت الآن أكثر براغماتية وتستند إلى مصلحة اقتصادية مشتركة، خصوصًا مع الثقل الاقتصادي والجيوسياسي الذي أصبح يتمتع به هذان البلدان في السنوات الأخيرة.
أما على مستوى شمال إفريقيا، فقد كرس المغرب نفسه كقوة إقليمية موثوق بها. وهكذا لعب المغرب دورًا محوريًا في عملية السلام في ليبيا، حيث تمكن من التفاعل مع كل من الفصائل الشرقية والغربية، ونجح في التوسط بينهما للوصول إلى اتفاق لوقف إطلاق النار. وكان هذا النجاح الدبلوماسي بمثابة دليل على النفوذ المتزايد للمغرب في المنطقة، خصوصًا في بلد مهم مثل ليبيا، التي تورط نظامها السابق في أجندات معادية لمصالح المغرب في بعض المراحل التاريخية الحاسمة في ملف الصحراء.
التحولات الاقتصادية: تقوية البنية التحتية وتنويع الاقتصاد وتنويع الشراكات في إفريقيا
علاوة على هذه التطورات الدبلوماسية على المستوى الإقليمي والدولي، شهد الاقتصاد المغربي تحولات كبيرة، رغم التحديات المستمرة مثل الفقر والبطالة. فقد ركز المغرب تحت قيادة الملك محمد السادس على تحديث وتنويع اقتصاده. واستثمرت المملكة بشكل كبير في البنية التحتية، بما في ذلك شبكة السكك الحديدية والقطارات عالية السرعة والموانئ والمطارات الجديدة، مما جعلها نقطة محورية في طرق التجارة الإفريقية والمتوسطية. وبالإضافة إلى النمو الكبير في قطاع السياحة، أصبح المغرب وجهة جذابة للمستثمرين الأجانب، حيث جلب العديد من الاستثمارات الضخمة، خصوصًا في مجال صناعة السيارات والطائرات. وهكذا أصبحت المملكة تركز على المجال الصناعي بدلا من التركيز المفرط على الفوسفاط والفلاحة، خصوصًا مع توالي سنوات الجفاف. ويقدم المغرب أيضًا خططًا طموحة للنمو المستدام. فقد استثمرت المملكة بشكل كبير في مشاريع الطاقة المتجددة، مما جعلها رائدة في مجال الطاقة الخضراء في إفريقيا.
كما امتدت تنويعات الاقتصاد المغربي إلى القطاع المالي. ففي 6 يناير 2025، ذكرت صحيفة “لو فيغارو” الفرنسية الذائعة الصيت أن الدار البيضاء، التي أطلقت عليها اسم “وول ستريت المغربية”، أصبحت مركزًا ماليًا رئيسيًا في القارة الإفريقية، وأنها نقطة الانطلاق الأساسية للشركات العالمية التي ترغب في التوسع في إفريقيا.
واتخذت المملكة نهجًا استباقيًا لفتح أسواق جديدة عبر القارة، لا سيما في المناطق التي كانت تميل في الماضي إلى دعم موقف الجزائر بشأن قضية الصحراء المغربية، خاصة بعد عودته للاتحاد الافريقي. ومن خلال ريادته في قطاعات مثل الاتصالات، والبنوك، والتأمين، نجح المغرب في توسيع نفوذه في إفريقيا جنوب الصحراء. ومن أبرز الشراكات التي سعى بقوة إليها هي التعاون مع نيجيريا في مشروع خط أنابيب الغاز الطموح الذي يربط هذا البلد بالمغرب، والذي يهدف أيضًا إلى ربط إفريقيا بأوروبا مرورًا بعدة دول إفريقية أخري، وهي: بنين، وتوغو، وغانا، وساحل العاج، وليبيريا، وسيراليون، وغينيا، وغينيا بيساو، والسنغال، وموريتانيا.
بالإضافة إلى هذه المشاريع الجديدة، عزز المغرب علاقاته مع دول مثل كينيا، وإثيوبيا، ومالي، وبوروندي، وجمهورية إفريقيا الوسطى، وغينيا الاستوائية، وإسواتيني، وزامبيا. وفي الوقت نفسه، حافظ على علاقات قوية مع حلفائه التقليديين مثل السنغال، وساحل العاج، وجمهورية الكونغو الديمقراطية، وجزر القمر، وسيراليون، والصومال، وتوغو، وغامبيا، وغينيا، وجيبوتي، وبوركينا فاسو، والغابون.
القوة الناعمة.. كرة القدم والدبلوماسية الثقافية
ومن أبرز الأمثلة على تحول المغرب هو استراتيجيته في استخدام القوة الناعمة. فقد استغلت المملكة تراثها الثقافي والتاريخي الكبير والجذاب، وكذلك تطور رياضة كرة القدم لتعزيز نفوذها الدولي. من خلال إدراج اليونسكو للكثير من عناصر التراث الثقافي اللامادي للمغرب في لوائحها، مثل بعض الصناعات الحرفية والأزياء والمآثر والساحات، أصبحت المملكة رمزًا للغنى والتنوع الثقافيين. وبالإضافة إلى ذلك، شكل نجاح المنتخب المغربي في كأس العالم 2022 فرصة لتعزيز مكانة المملكة على الصعيدين الإقليمي والعالمي. وتوج هذا التفوق بمنح المغرب شرف استضافة كأس العالم 2030 مع جاريه الأوروبيين، إسبانيا والبرتغال، مما يعزز دوره البارز على الساحة العالمية، دون الحديث عن تعزيز بنيته التحتية بمشاريع ضخمة استعدادًا لهذا الحدث الهام. وتجدر الإشارة إلى أن الجامعة الملكية المغربية تلعب دورا رياديا أيضا في تطوير كرة القدم الإفريقية ومساعدة العديد من الاتحادات الكروية الإفريقية على تطوير إمكانياتها وقدراتها الذاتية.
دور الجاليات المغربية في الخارج
تعتبر علاقة المغرب مع جالياته، بما في ذلك الجالية اليهودية المغربية، جزءًا أساسيًا من استراتيجيته. فقد حافظت المملكة على علاقات قوية مع الجالية اليهودية المغربية في إسرائيل وفرنسا والولايات المتحدة إلى جانب جالياته الأخرى. وهذه الجاليات تلعب دورًا كبيرًا في دعم مصالح المغرب والضغط لدى صناع القرار في الدول الكبرى، علاوة على تقديم المشورة القيمة.
لقد أصبح المغرب لاعبًا رئيسيًا في إفريقيا وحوض المتوسط بفضل التحولات الاقتصادية والدبلوماسية التي شهدها في السنين الأخيرة. من خلال التحالفات الاستراتيجية، والاقتصاد المتنوع، والتركيز على القوة الناعمة، يخطو المغرب خطى ثابتة لتعزيز مكانته كقوة صاعدة في القرن الواحد والعشرين، وهذا بطبيعة الحال يعزز موقف المملكة في حشد الموقف الدولي في قضية الصحراء.
0 تعليق