الديالمي يتساءل: هل أسّست فاطمة الفهرية فعلا "جامع القرويين"؟

هسبيرس 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

“هل أسست فاطمة الفهرية، فعلا، جامع القرويين؟”، سؤال طرحه وأجاب عنه عالم الاجتماع عبد الصمد الديالمي، مزعزعا إحدى أكثر المسلّمات التاريخية انتشارا بالمغرب والمغارب، كما بيّن في نصّ جواب عمّمه من أجل الفائدة العلمية، ردّ به على صحافية في الإعلام الدولي كانت “بصدد كتابة تقرير عن شخصية فاطمة الفهرية التي بنت جامع القرويين، وعن الظروف المجتمعية لبروز هذه الشخصية، وبشكل عام عن التأثير النِّسوي في تلك الفترة من التاريخ المغربي”.

وجامع القرويين أحد أبرز المراكز العلمية تاريخيا، وقد احتفى في السنة الفارطة 2024 بمرور اثني عشر قرنا على تأسيسه بالعاصمة العلمية التاريخية للمغرب، حين جمع بين كونه جامعةً لطلب العلم، ومسجداً للصلاة، وداراً للنقاش المعرفي، ومكتبة تضم ثروة من المخطوطات، من بينها ملاحظات بخطّ يد ابن رشد على ترجمةٍ لكتاب أرسطِيّ، ومخطوط حبّسه ابن خلدون شخصياً على المكتبة وخطَّ نصّ توقيفِه على “المقدمة”، والمخطوط الوحيد المعروف للمنظومة الشعرية في تعليم الطب التي نظمها الفيلسوف ابن طفيل، ومخطوط لـ”الفتوحات المكية” لابن عربي أقَرَّ بمطابقته للأصل المكتوب، ومخطوطات في مختلف الآداب والعلوم من رياضيات، وتاريخ، وشعر، وعلوم شرعية، وأديان، وعلم فلك، وفلسفة، ورحلات، وطبّ، وغير ذلك كثير.

وقال عبد الصمد الديالمي: “حسب الرواية الخَبَرِية التي تبناها التاريخ الرسمي للمملكة المغربية منذ الحقبة المرينية، تأسس جامع القرويين على يد فاطمة الفهرية سنة 859 للميلاد، ثم جامع الأندلس في نفس السنة على يد أختها مريم الفهرية. وهما معا مهاجرتان إفريقيّتان/تونسيتان هاجرتا إلى فاس صحبة أبيهما التاجر الذي استقر بفاس وأثرى ثروته بفضل التجارة. يقال أيضا إن الأب وعد نفسه بتخصيص ميراثه بالكامل لبناء مسجد. ماذا يعني وعد الأب هذا؟ هل هو وعد ناتج عن عدم إنجابه لولد ذكر؟ من الوارد أنه قصد منع ابنتيه من الاستفادة الكلية من الإرث ومن ‘خطر’ تقاسمه مع زوج ما… خصوصا وأنه لا إمكان لتعصيب إذ لا ذكر لوجود مُعَصِّب”.

إذن، “بتعبير آخر، نفذت الوارثتان وعد والدهما ببناء مسجدين، مما يعني أن المبادرة ‘الخيرية’ هاته ليست ذات أصل نِسْوي. طبعا، كان بإمكان الوارثتين عدم تنفيذ وعد أبيهما والتصرف في إرثهما بشكل آخر”، لكن “بغض النظر عن هذا التأويل، ما هو مصدر رواية بناء المسجدين المذكورين من طرف فاطمة ومريم؟”.

وأضاف الأكاديمي المغربي أن “أول من ذكر فاطمة ومريم الفهريتين كبانيتين لمسجدي القرويين والأندلس بفاس هو ابن أبي زرع (توفي سنة 1326)، في كتابه (أنيس المطرب بروض القرطاس في أخبار ملوك المغرب وتاريخ مدينة فاس)”، علما أن “ابن أبي زرع قد ألف كتابه بعد خمسة قرون من الأحداث التي يرويها عن الأختين الفهريتين. وهو ما يقلل من مصداقية الرواية، نظرا لطول المسافة الزمنية الفاصلة بين الحدث والرواية، مع غياب مصادر أخرى قبلها تذكر الرواية نفسها أو تؤكدها”.

وزاد: “ثم إن ابن أبي زرع لا يعتبره المؤرخون مؤرخا موثوقا به، وإنما مجرد واصف لماضي غير موثق. لذلك يرى شفيق بنشقرون، وهو مؤرخ مغربي معاصر، أن الرواية الزرعية (نسبة لابن أبي زرع) عن تأسيس المسجدين تتسم بالكثير من الأخطاء في وصفهما، بل إنها مجرد أسطورة تُجَمِّل العهد المريني من خلال تجميل صورة امرأتين، عند وصفهما بالتقوى والورع والإحسان وبناء المساجد”.

وفي الواقع، يظل “الفعل الخيري للفهريتين، إن صح”، وفق جواب الديالمي المعمّم، “فعلا نِسْويا (feminine) وليس نَسَويا (feminist) لأنه يبرهن على مساهمة النساء في بناء مسجدين يُدَرِّسان اللامساوة بين الجنسين، الشيء الذي كان عاديا في بدايات تاريخ الإسلام. فالنَّسَوية الموجودة آنذاك نَسَوية إسلامية، دون أن تحمل هذا الاسم، وتقول بأن الإسلام أعطى المرأة حقوقا غير مسبوقة في التاريخ، وهو قول صحيح بالفعل. لكن تلك الحقوق لم تبق كافية اليوم في نظر الحركة النَّسَوية الحداثية في العالم العربي الإسلامي”.

وحول “اعتبار بناء مسجدين بفاس دليلا على المكانة الممتازة التي كانت تحظى بها المرأة في فاس في عهد الأدارسة، وعلى تأثير النساء كعنصر اجتماعي فاعل في سير الأحداث الاجتماعية والسياسية”، ذكر الكاتب أن ما ينبغي الإقرار به هو أن “أول امرأة كان لها تأثير على المجال العمومي، هي كنزة زوجة إدريس الأول مؤسس ‘الدولة’ الإدريسية. ذلك أن إدريس الأول هذا، العلوي ـ الطالبي الأصل والشيعي ـ الزيدي المذهب الفار من البطش العباسي، وجد في المغرب الأقصى ملجأ بفضل تزوجه من كنزة البربرية من قبيلة أورابة. وبفضل هذا الزواج وتدخل كنزة لدى قبيلتها، استطاع إدريس الأول أسلمة قبيلة كنزة وتكوين قوة عسكرية و’دولة’ دينية مكنته من غزو بعض مناطق المغرب الأقصى”.

وعاد الديالمي إلى عدم ذكر فاطمة ومريم الفهريتين تاريخيا إلا في “إعادة بناء مسجد القرويين وتوسيعه وفي بناء مسجد الأندلس، أي كنساء لهن أثر وتأثير”، باستثناء رواية ابن أبي زرع المرينية لوحدها. ثم استرسل قائلا: “ما عدا هذا الفعل الخيري، لا شيء آخر ذكر عن الأختين ولا شيء عن أولادهما، بل ولا خبر عن مكان قبريهما بفاس بالرغم من أن جامع القرويين تحول فيما بعد إلى جامعة شهيرة على الصعيد الدولي”.

وقدّر الأكاديمي أن هذه “مؤشرات تدل على ‘غرابة’ قصة بناء مسجدَي القرويين والأندلس”، ثم أردف قائلا: “توجد أدلة تاريخية تشكّك في الرواية الزّرعية، وتبين أن مسجد القرويين أسس على يد أحد أبناء إدريس الثاني، وأن قصة الفهريتين مع جامعي القرويين والأندلس ما هي إلا أسطورة انتشرت بفضل الرواية الزرعية. أكثر من ذلك، أصبح اليوم وجود فاطمة الفهرية (وأختها) نفسه موضع تساؤل وشك بسبب قلة المصادر عنها ولأن المصادر التي ذكرت قصتها ووجودها غير موثوقة كررت بعضها البعض بعد العهد المريني. وفي هذا الإطار، وخلال أعمال تجديد مسجد القرويين في الخمسينيات من القرن العشرين، اكتشف عالم الآثار هنري تيراس نقشًا كوفيًا فوق عارضة المحراب الأصلي يخبر أن تأسيس المسجد يعود إلى سنة 877 ميلادية على يد الأمير داود، أحد أبناء إدريس الثاني”.

لكن عدم ذكر اسم فاطمة الفهرية كمؤسسة للمسجد، ولا تأكيد للتاريخ الذي ذكره ابن أبي زرع للتأسيس (858 ميلادية)، سبق أن رد عليه المؤرخ عبد الهادي التازي، معتبرا أن “فاطمة الفهرية شخصية تاريخية بالفعل، ومبرر عدم ذكر اسمها على عارضة المنبر الخشبية (هو) الاكتفاء بذكر اسم الأمير فقط، وبالاستغناء عن ذكر فاطمة كممولة لبناء المسجد”.

وبعد المعطيات التي بسطها الديالمي، دعا إلى “حذر” معرفي، “يقينا من الوقوع في ضرب من النرجسية الإسلامية النَّسَوية المُسيَّسة، وهي على كل حال نَسَوية تجاوزها التاريخ بالرغم من عودتها اليوم (خاصة) في أشكال إسلاموية أيضا”.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق