مصطفى زايد يكتب: الأم في الفكر الصوفي بين الرحمة والعطاء

الحادثة 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

في الفكر الصوفي، تُعتبر الأم رمزًا من رموز الرحمة اللامتناهية والعطاء اللامحدود، وهي تجسد جانبًا من جوانب الطهارة والتفاني في حب الله. يتجلى ذلك بوضوح في أقوال مشايخ الصوفية الذين جعلوا من الأم مثالًا للحب الإلهي الذي لا يشترط مقابلًا ولا حدودًا. من خلال تعاليم الصوفية، نجد أن الأم ليست مجرد شخصية اجتماعية، بل هي أيضًا رمز روحاني يمثل الرعاية الإلهية التي تغمر الإنسان في كل مرحلة من مراحل حياته.

مفهوم الأم في التصوف

في التراث الصوفي، تعتبر الأم نقطة البداية لكل حياة، سواء كانت الحياة الجسدية أو الروحية. يرى الصوفيون أن الأم تمثل أصلًا ومصدرًا للرحمة والرعاية في هذا العالم. وقد نقل مشايخ الصوفية هذا المعنى في كتاباتهم وأشعارهم، مؤكدين أن الأم هي المبدأ الأول الذي يعكس أعمق معاني الحب الإلهي.

كان الصوفيون يعتبرون الأم تجسدًا للرحمة الإلهية، وظهرت هذه الفكرة بشكل جلي في العديد من الأقوال الصوفية. يرى بعضهم أن العطف الذي تبديه الأم تجاه طفلها يمكن أن يُقارن بالرحمة التي يُظهرها الله تجاه عباده. فالرحمة الأمومية التي تتدفق بشكل غير مشروط هي منبع الفهم الصوفي للرحمة الإلهية.

اقرأ أيضا

الأم في أقوال مشايخ الصوفية

كثير من مشايخ الصوفية تناولوا موضوع الأم في كتاباتهم وحكمهم، وأكدوا على مكانتها في الروحانيات. من أبرز هؤلاء المشايخ هو الإمام الغزالي، الذي أشار في كتابه إحياء علوم الدين إلى أن بر الوالدين، وخاصة الأم، يعتبر من أعظم الأعمال التي تقرب الإنسان من الله. ويقول الغزالي في هذا السياق إن الله أمر ببر الأم في مواضع متعددة في القرآن الكريم، ما يعكس عظمة هذه العلاقة في الإسلام. في نظره، الأم هي التي تحمل هموم الإنسان منذ اللحظة الأولى، وهي التي تمنح بلا حدود.

كما تناول الشيخ محي الدين بن عربي موضوع الأم في مؤلفاته، مشيرًا إلى أن الأم تمثل في القلب الصوفي مصدرًا للحنان الإلهي. من خلال الأم، يتعلم الإنسان الصوفي معاني التفاني في العطاء دون انتظار مقابل. لهذا السبب، قد يعتبر الصوفيون العلاقة مع الأم مشابهة للعلاقة بين العبد وربه، حيث يُفنى في حب الله كما يفنى الطفل في حب أمه.

ومن جانبه، يرى الشيخ عبد القادر الجيلاني أن الأم تعد رمزًا للرحمة والتضحية، وأن على الإنسان أن يقدّر هذه العلاقة الفطرية لأنها تجسد المعاني الحقيقية للمحبة الإلهية. في تعاليمه، يحث الجيلاني أتباعه على الاعتناء بالوالدين، خاصة الأم، لأنها تعكس الرحمة السماوية التي لا تتوقف.

علاقة الأم بالروحانية الصوفية

لا تقتصر مكانة الأم في الفكر الصوفي على كونها نموذجًا للحب الأرضي فحسب، بل تمتد لتصبح رمزًا للارتباط بالروحانيات والعوالم العلوية. يعتقد الصوفيون أن الأم هي مصدر الحكمة العميقة وأنها تمنح للطفل نظرة أولية عن الحياة والوجود. عندما يبدأ الطفل رحلة الفهم الروحي، فإن أول مرشد له هو أمه، التي تُعلمه حب الله من خلال تضحياتها اليومية.

يرى الصوفيون أن الأم هي التي تفتح للطفل أبواب الحكمة من خلال تصرفاتها ورؤيتها العميقة للحياة. فهي ليست فقط المعلمة الأولية، بل هي أيضًا النموذج الأول لحياة التواضع والزهد. فالأم في الفكر الصوفي تُمثل صفات من عالم الآخرة: اللامحدودية في الحب والعطاء، والقدرة على التحمل في وجه التحديات والصعاب.

الأم والذوبان في الحب الإلهي

من خلال فهم مكانة الأم في التصوف، يظهر أيضًا كيف أن الأم تُعدّ نموذجًا للذوبان في حب الله. يقول ابن عربي إن الحب الحقيقي لا يتجلى إلا عندما نحب بلا شروط، تمامًا كما تفعل الأم مع طفلها. هذا الحب الفطري، الذي لا يتوقف، هو الطريق الذي يسلكه الصوفي للوصول إلى التوحيد الكامل مع الله (ابن عربي، الفتوحات المكية، صفحة 419).

إن مكانة الأم في الفكر الصوفي تتجاوز حدود العلاقات البشرية لتصبح رمزًا من رموز الرحمة الإلهية. تعتبر الأم في الصوفية نموذجًا للحب والعطاء اللذين لا يشترطان مقابلًا. ومن خلال فهم هذا المعنى العميق، يستطيع الصوفيون أن يتعلموا كيف يذوبون في حب الله، مثلما تذوب الأم في حب طفلها. لهذا السبب، يعد بر الوالدين – وخاصة الأم – من أهم الأعمال الصوفية التي تقرب الإنسان من الله وتفتح له أبواب الرحمات الإلهية.

تابع أحدث الأخبار عبر google news
إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق