منذ أكثر من عشرين عامًا بدأت الأردن حربها ضد التدخين، ورفعت راية المكافحة عبر قوانين واتفاقيات دولية، لكنها اليوم تقف مهزومة أمام عدوٍ تمدد في أوساط الشباب والأطفال، والنساء، وأصبح جزءًا من النسيج المجتمعي. في عام 2001، أُنشئت اللجنة الوطنية لمكافحة التبغ، وفي 2004، وقّعت الحكومة الأردنية على الاتفاقية الإطارية لمكافحة التبغ، قبل أن تمرر قانون الصحة العامة رقم 47 عام 2008، الذي بقي مجرد حبر على ورق لفترة من الزمن، حتى فُعّل – جزئيًا – في بعض الأماكن المغلقة. ورغم ذلك، الأردن اليوم في المرتبة الأولى إقليمًا وفي المراتب الأولى عالميًا من حيث معدلات التدخين، فيما تتحول الشوارع والمقاهي وحتى المرافق الصحية والسياحية والاجتماعية إلى مساحات مفتوحة للإستهلاك الجماعي لهذا السم القاتل.
الحقائق لا تحتمل التأويل
الحقائق لا تحتمل التأويل، فوفقًا لنتائج المسح الوطني حول إنتشار إستخدام التبغ بين البالغين في الأردن، والتي نُشرت أواخر الشهر الماضي، فإن معدلات التدخين في المملكة وصلت إلى مستويات لا تنذر بالخطر بل تدب الذعر في أوساط المسؤولين قبل المواطنين. فقد بلغت نسبة المدخنين بين الذكور 71.2%، بينما ارتفعت بين الإناث إلى 28.8%، وهي من بين أعلى المعدلات عالميًا. والأخطر من ذلك، أن التدخين لم يعد مقتصرًا على البالغين، بل أصبح متفشيًا بين المراهقين، مدفوعًا بإنتشار مقاهي الأرجيلة وتنامي العادات الاجتماعية التي تتسامح مع الظاهرة، بل وتشجعها. لم يعد التدخين مجرد عادة سيئة يمارسها البعض في الخفاء، بل تحول إلى مشهد يومي مألوف في المنازل والمطاعم والجامعات وحتى داخل المؤسسات الحكومية بشكل بديهي. فكيف يمكن تفسير ذلك؟ هل هو مجرد غياب لتطبيق القوانين، ام أننا أمام أزمة أعمق تتعلق بتطبيع التدخين داخل المجتمع إلى حد اعتباره سلوكًا مقبولًا، بل ومحبذًا أحيانًا؟
فرض الالتزام بالقوانين المتعلقة بالتدخين
لطالما كان القانون أداة أساسية لمكافحة الظواهر الضارة، لكنه في الأردن للأسف لم يكن سوى إطار نظري وو يفتقر الى ادوات التطبيق الحقيقة الفاعلة، و لم يجد طريقه إلى التنفيذ، فلا توجد جهة مسؤولة بصرامة عن فرض الالتزام بالقوانين المتعلقة بالتدخين، ولا آليات رقابة فعالة تحول دون انتهاكها. في المراكز الصحية والمستشفيات، حيث يُفترض أن تكون البيئة خالية من الدخان، تجد الموظفين والزوار يدخنون دون أي خوف من المساءلة، فما بالك ببقية الوزارات والمؤسسات؟
المشكلة لا تكمن فقط في غياب العقوبات، بل في القبول الضمني لهذه الظاهرة. فالتدخين، وخاصة الأرجيلة، أصبح جزءًا من الثقافة الاجتماعية، ولم يعد يُنظر إليه باعتباره سلوكًا مستهجنًا حتى بين النساء، اللواتي كنّ في الماضي يتجنبن هذه العادة لأسباب اجتماعية، لكنهن اليوم يمارسنها بشكل علني دون أي حرج، بل بعتبرنه "برستيج" يتباهي به. وما يزيد الأمور سوءًا أن التدخين السلبي أصبح أمرًا واقعًا يعاني منه الأطفال بشكل يومي، حيث يتعرضون له في المنازل والمرافق العامة، ما يجعلهم عرضة لأمراض مزمنة تبدأ مبكرًا وتستمر معهم مدى الحياة، بتكاليف صحية واقتصادية باهظة.
حلول تقليدية والحاجه المتأتية من الضرائب
الخطأ الأكبر الذي وقع فيه الأردن خلال العقدين الماضيين واكثر هو التعويل على حلول تقليدية والحاجه المتأتية من الضرائب والتي للاسف أثبتت عدم فعاليتها. حملات التوعية الإعلامية التي لا تتجاوز الرسائل السطحية لن تغيّر سلوك المجتمع، وفرض ضرائب مرتفعة على منتجات التبغ – كما تفعل الدول الأوروبية – قد يأتي بنتائج عكسية في بلد يعاني فيه المواطن من أزمات اقتصادية خانقة، إذ قد يجد الآباء أنفسهم مضطرين للإختيار بين شراء السجائر أو تقليل الإنفاق على الغذاء والاحتياجات الأساسية.
ما نحتاج إليه ليس مزيدًا من التشريعات المطبقة، بل خطة وطنية صارمة تتضمن تفعيل القوانين من خلال آليات رقابة حقيقية، بحيث يتم تطبيق الغرامات بشكل صارم على الأفراد والمؤسسات التي تخرقها، دون استثناءات أو استرضاءات. لا بد من حملات توعوية منظمة ومكثفة تتجاوز الإعلانات السطحية إلى استراتيجيات أعمق وبرامج تغيّر من قناعات وسلوكيات الناس. بالإضافة إلى توفير الخدمات المتخصصه للإقلاع عن التدخين سواء من توفير مزيد من عيادات الاقلاع عن التدخين والتعريف بها، وتدريب الكوادر الصحية في الخدمات الصحية الأولية لمساعدة المدخنين وإنشاء نظام الإحالة إلى المراكز المختصه وبذلك خلق بيئة داعمة لمكافحة هذه الآفة.
الحرب على التدخين ليست مستحيلة، لكن استمرار الفشل في مكافحته يطرح تساؤلًا جوهريًا: هل هناك إرادة سياسية حقيقية لإنهاء هذه الظاهرة من جميع قطاعات الدولة؟و يجب الاشادة هنا في اطلاق واعلان جلالة الملك عبدالله الثاني بنفسه الاهمية القصوي لمكافحة التدخين والدعوة الحازمة لإطلاق استراتيجية وطنية لمكافحة التدخين وتطبيق قانون الصحة العامة في شهر آب 2023.
هل هناك الكفاءة العلمية والقدرة العملية والمالية واللوجستية على وضع خطة محكمة لكسر دائرة العجز والتردد، ومواجهة الإدمان الذي يلتهم أجيالًا بأكملها؟ ارقامنا
تعكس فشلنا، وعدا ذلك يعد تنظيرًا
كاتب المقال
الدكتور مهند عبدالفتاح النسور
رئيس مجلس إدارة
الشبكة الشرق أوسطية للصحة المجتمعية (امفنت)
0 تعليق