العناز يقرأ في "كحل إثمد" للمزروعي

هسبيرس 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف
العناز يقرأ في
صورة: هسبريس
عادل العنازالثلاثاء 25 مارس 2025 - 02:32

لا مراء في أن تجليات الذاكرة، جَمْعيةً كانت أم فَردية، كونية أم محليةً…تتخلل أغلب الإبداعات الإنسانية، وتهمين عليها، بل وتعلي من شأنها، كما هو متعين في التجارب البارزة التي اشتغلت بالتاريخ والتراث والأرشيف والتقاليد… في هذا الإطار تطل علينا المبدعة الإماراتية فاطمة المزروعي بعملها السردي الجديد: “كحل إثمد” الصادر عن معهد الشارقة للتراث بحر سنة 2024، لتخوض جماليا في أسئلة الذاكرة والهوية، لكن بنفس ينهل من خبرتها الأكاديمية والعملية في مجال التاريخ والتراث والآثار؛ فأين تتعين أوجه التوظيف الجمالي للذاكرة؟ وما الغايات التي تكمن خلف اعتماد الموروث الشعبي بوصفه رافدا للحكي عن خصوصية الذاكرة والهوية الإماراتيتين؟.

يفضي تأمل العتبات الشكلية الأولية، بداية من العنوان والغلاف… إلى حاجة القارئ إلى اكتشاف مجاهيل هذه المجموعة القصصية التي تتكون من إحدى عشرة قصة (ابن البحر، موزان الرمسية، ثقب روحي…). وعلى الرغم من أن العنوان الرئيس: “كحل إثمد” قد يبدو غامضا بالنسبة إلى قارئ يجهل بعض تفاصيل الثقافة الشعبية الإماراتية فإن الغلاف كان شفافا كي لا يدع أي مساحة للتوه في الاحتمالات؛ إذ تشكَّلت أبرز أيقوناته البصرية من امرأة ترتدي برقعا إماراتيا فاخرا، بينما تجملت رموشها بالكحل، ما أضفى عليها ذاك الميسم الثقافي المتفرد الذي يميز المرأة الإماراتية حين تحرص –بناء على قيم هويتها المجتمعية- على الربط بين متطلبات الجمال وأخلاقيات الحشمة والوقار. وقبل أن تشرع المبدعة في تنضيد قصصها عملت على استهلال مجموعتها بمقتبس دال لشمس الدين التبريزي مفاده: أن علينا أن نرى الله: «مفعما بالمحبة والرحمة»، تماشيا مع فلسفة وطنها في التسامح والأخوة الإنسانية؛ وذلك حتى تكون المبدعة فاطمة الزهراء في منأى عن مهاوي التعصّب التي قد يسقط فيها -عادةً- المشتغلون بالتراث.

لا تستحضر القاصة شخصياتها إلا وهم يحملون هويتهم ويستديمون قيم مجتمعهم؛ ومعنى ذك أن الشخصيات جرى استثمارها لتكون صدى من أصداء الذاكرة والثقافة الإماراتيتين، وفق معجم دلالي لا يبارح اللهجة المحلية؛ فعلى سبيل الذكر لا الحصر تدور قصة “بقشة أمونة” عن امرأة خمسينية قوية تلقب بأمونة التي ورثثت عن أمها حرفة بيع مستلزمات النساء من أثواب وعطور، كما ورثثت عنها خصالها في حب الحديث والتزيّد في دسائس الحارة، والتلصص، ومساعدة المحتاجين… حتى أمست ذاكرتها سجلا لكل عائلات الحارة؛ سجلا ينطوي على الخير والشر، كما ينطوي على المقدس والمدنس. وعلى الرغم مما تميزت به هذه الشخصية من قدرة رهيبة على تجاوز محن نشأتها لا أنها سرعان ما تضعف وتهتز؛ فكلما أتت على فعل يناقض سجيتها الإنسانية اتقد ضميرها من جديد ليعذبها كما هي الحال عندما شاركت في دفن جنين تعلم أن أمه أقدمت على إجهاضه؛ إذ “ظلت طوال الليل تسمع بكاء الطفل وهو ينادي: أمي أمي، ظلت تلك الأحلام تتراءى لها حتى إذا حلّ الليل لبست عباءتها، وراحت تزور المقابر سرا تحت ظلمة الليل الداكنة، ظنا منها أنها سوف تجد ذلك الطفل حيا…” (24). بيد أن قوة شخصية أمونة في تجاوز المحن والمكائد لم تصمد أمام فعل الخيانة حينما تزوج زوجها “حمود” سرا كي ينجب الأطفال، لتختفي تاركة –في غيابها الملحمي- حيرةً كبيرة تخيّم على أهالي الحارة.

واستنادا إلى ما سبق يتعين التسريد الجمالي للذاكرة والهوية عبر تضام المجموعة كلها لتشكل نسقا يجمع بين أيقونات التراث المحلي والثقافة الشعبية، لتعيد الكاتبة من خلالهما أَسْطَرة الحكايات الهامشية في قالب قصصي يطبعه التشويق والإثارة اللذان يفضيان إلى استكشاف فرادة الثقافة الشعبية الإماراتية خاصة، والخليجية عامة، مثلما نلفي ذلك في قصة “ابن البحر” و”موزان الرمسية” “اسمي حصة” إلخ. ولئن كانت فلسفة المجموعة تقوم –في أبعادها الجمالية- على الاحتفاء الموضوعي بالحكايات والأحداث التي قد تبدو محلية، فإن خبرة المبدعة بالموروث الشعبي جعلتها تتخذ من رمزية أحداثه منفذا للتعريف بخصائص ثقافتها ومميزاتها الضمنية في التسامح، واستضافة الآخر، والترحيب به، سواء أكان مواطنا أم مقيما؛ إذ يظهر ذلك بجلاء في ترحال “أمونة” على سبيل الذكر لا الحصر بين منازل الحارات وسط كم متنوع من الجنسيات التي اتخذت من دولة الإمارات العربية المتحدة مصدرا لكسب رزقها في جو يطبعه تقبل الآخر… وكأن المبدعة تريد أن تقود المتلقي إلى استنتاج إنساني مفاده: أن مصدر قوة الأوطان تتعين في تقبّل ثقافتها للاختلاف، فضلا عن الجمع الخلاق بين الأصالة والمعاصرة، والخصوصية والانفتاح.

النشرة الإخبارية

اشترك الآن في النشرة البريدية لجريدة هسبريس، لتصلك آخر الأخبار يوميا

اشترك

يرجى التحقق من البريد الإلكتروني

لإتمام عملية الاشتراك .. اتبع الخطوات المذكورة في البريد الإلكتروني لتأكيد الاشتراك.

لا يمكن إضافة هذا البريد الإلكتروني إلى هذه القائمة. الرجاء إدخال عنوان بريد إلكتروني مختلف.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق