مارجو حداد تكتب: إلى صُنَّاع “لام شمسية”.. تحية تليق بمن أخرج المِسك من وحل الصمت

الرئيس نيوز 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

أيها الواقفون في وجه العمى، يا من حملتم نار الحقيقة في زمن الظلمة، أما علمتم أنكم تغردون خارج السرب، حيث يأنس القطيع إلى الوهم، ويخشى مواجهة المرآة؟ أما درى من يقتات على التكرار، أنكم خرقتم ستار العادة، فكان عملكم سهمًا في قلب السكون؟.

“لام شمسية” ليس مجرد مسلسل، بل محاكمة مؤجلة لواقع اختار الصمت، ورثى الضحية قبل أن تموت، وألبس الجلاد ثوب الأب، الأخ، الصديق، فكان في كل بيت، يطرق كل باب، يبتسم في وجوهنا، ولا نراه. كيف نظرتم في عيون الوحش ورأيتم الإنسان الذي يخفيه؟ كيف لامست أيديكم الجرح ولم ترتعشوا؟.

319.jpg

حتى اختيار الاسم لم يكن عبثيًا، بل هو مفتاحٌ لفهم المسلسل في جوهره. “لام شمسية” ليست مجرد قاعدةٍ نحوية، بل رمزٌ للطريقة التي يختفي بها أثر الجريمة، كما تذوب “ال” التعريف في حروف الشمس فلا تُنطق. هكذا يُمحى صوت الضحية تحت وطأة العار والخوف والتواطؤ الجماعي، فيغدو الصمت قانونًا غير مكتوبٍ، لكنه أقوى من كل التشريعات.

إلى الممثلين الذين لم يؤدوا أدوارهم، بل عاشوها كأنهم استعاروا أرواحًا عاشت الظلم، إلى النص الذي كتب بمدادٍ امتزج بالدموع المختبئة خلف الأبواب، إلى المخرج الذي لم يخشَ أن يضع الكاميرا في وجه الحقيقة، أنتم من أي طين جُبلتم، وأي نارٍ أشعلت رؤوسكم؟.

هذا العمل لم يكن دراما تُنسى بانتهاء الموسم، بل صفعة في وجه الغافلين، جرس يقرع في الليل الطويل، سؤالٌ لا إجابة له إلا مواجهة الوحش الذي يعيش بيننا، دون قناع، دون رتوش. في كل بيتٍ أبٌ، أخٌ، ابن، صديق، لكنه قد يكون ذلك الذي تسلّل خلسةً إلى الجسد، ترك الندوب ومضى، دون أن يراه أحد، دون أن يحاسبه أحد.

العمل لم يقتصر على قضية التحرش

“لام شمسية” لم يقتصر على قضية التحرش، بل فتحت أبوابًا عديدة لقضايا اجتماعية شائكة، مثل جريمة الإدمان على الجريمة الاجتماعية التي تلاحق الأطفال، والخيانة الزوجية التي تهدم الأسس، بالإضافة إلى قلة الوعي الذهني الذي يُحرم الأطفال من حقهم في العلاج النفسي، إذ ما زالت بعض المجتمعات تتجنب الذهاب للطبيب النفسي كأنه عارٌ، في حين هو علاجٌ للروح قبل الجسد.

في هذا الزمن، حيث تحوّل الولاء إلى سلع، يظهر الرجل الذي يزرع في قلب زوجته الشكوك، ويقنعها بأنها مصدر شقائه، فيغادر إلى أخرى، كما فعل أحمد السعدني، يعدها بحياة جديدة، ليغرس فيها آمالًا زائفة. تلك هي الخيانة في أبهى صورها، يستغل مشاعرها ويجعل منها ساحة لتجارب وهمية، ثم يتركها عارية من كل شيء، ليعود بعد أن يلتقط ما يشبع غرائزه، وكأنما لم يكن شيء. في النهاية، يعود إلى الأولى، غير مكترث لما زرع من جراحٍ في قلبين، ليكون الإثنان ضحية، وكلٌ منهما يعاني من جراح خفية. هذه الممارسات التي باتت تقتل ثقة المجتمعات وتدمر الأنفس، تروي قصة الفجور الذي لا يفرق بين الحق والباطل، في زمنٍ صار فيه الفعل الرديء أعظم من أن يُنكر.

320.jpg

فيما يظن هذا الرجل أن الزمن يطوي آثامه، وأنه يستطيع التلاعب بمشاعر النساء كما يشاء، ينسى أن هناك ربًّا لا يغفل ولا ينام. ينسى أن كل كلمة طيبة يقولها لامرأة ثانية هي سيفٌ مسلط على قلبٍ آخر، وأن كل وعدٍ زائف يقوله هو خيانةٌ مكتوبة في سجلٍ لا ينسى. هذا الذي يعبث بمشاعر الأنثى ويستهين بكرامتها، هو ذاته وحشٌ بشري، متحرشٌ في أبسط تجلياته. لا محالة، سيجني ما زرع من ألمٍ وعذاب، وسيجد نفسه يومًا عائدًا إلى المأساة التي بناها بيديه، ليكتشف أنه في كل امرأة تركها وراءه، ترك جزءًا من نفسه سيظل يتبعها إلى أن يدرك أنه لا مفر من جزاءٍ عادلٍ من ربٍّ لا يظلم أحدًا.

المخرج كريم الشناوي، بحرفية المايسترو، قاد هذا العمل ليكشف خبايا النفس البشرية، مستخدمًا عدسة الكاميرا كأداةٍ تسبر أغوار الشخصيات، وتُبرز أدق تفاصيل صراعاتها الداخلية.

الكاتبة مريم نعوم، بقلمها الحاد كالسيف، نسجت سيناريو يُعرّي المجتمع من أقنعته، ويُظهر الحقيقة دون رتوش، متناولًا قضية التحرش بالأطفال بجرأةٍ وعمقٍ نادرين.

أمينة خليل في دور “نيللي”
أمينة خليل قدمت أداءً نفسيًا عميقًا في شخصية “نيللي”، الزوجة والمعلمة، حيث جسدت الصراع الداخلي بين حبها لأسرتها وشكوكها المتزايدة حول ما يحدث مع طفلها وزوجها. نيللي تعيش في حالة من التمزق النفسي بين الإيمان بعائلتها وبين القلق الذي يكبر داخلها مع كل لحظة يمر بها. لا يقتصر الصراع على الصدمة الأولى، بل يتطور مع تزايد الأدلة والشواهد التي تكشف عن الحقيقة المرة. 

321.jpg

ردة فعلها على التغيرات حولها تبرز بشكل نفسي دقيق؛ فهي محكومة بالخوف على ابنها من جهة، ومن جهة أخرى تدفعها مشاعر الخوف والإنكار إلى إغلاق الأبواب على نفسها في محاولة يائسة للهرب من الحقيقة. خليل نجحت في التعبير عن هذه الازدواجية، مما جعل المشاهد يشعر مع كل لحظة حيرة أو تراكم شكوكها داخليًا، ويتعاطف معها وهي تُواجه الأزمة بألم يعتصر قلبها.

أحمد السعدني ابدع في دور “طارق” يُظهر لنا نوعًا آخر من الوحشية النفسية، حيث يُدمج بين الخيانة العاطفية والصراع العائلي. طارق ليس مجرد أب ممزق بين حبه لابنه ومحاولته حماية الحقيقة، بل هو رجل يعيش في صراع داخلي دائم بين رغباته الشخصية وواجبه العائلي. هو يظلم النساء في حياته، أولًا بالخيانة العاطفية مع المرأة الثانية، حيث يقنعها بحب زائف لتلبية احتياجاته، ثم يعود إلى زوجته الأولى وكأن شيئًا لم يحدث. 

322.jpg

في هذا التلاعب، يسرق منهما أكثر من مجرد مشاعر؛ بل يدمّر الأسس العاطفية لعائلته، مُحطمًا كل ما بنته من ثقة وحب. هذا الصراع الداخلي بين خيانة القلب وواجبه الأبوي، يخلق تشوشًا في شخصيته ويُبرز كيف يمكن للرجل أن يتحول إلى وحش آخر، لا يقتصر على التحرش الجسدي، بل يمتد ليشمل جرح مشاعر النساء، ويُلحق الضرر بالنسيج العائلي ويترك وراءه ألمًا دائمًا.

محمد شاهين، في تجسيده لشخصية “وسام”، كان ماهرًا في نقل التعقيدات النفسية للشخصية التي يرتدي فيها الوحش قناع الرجل المحترم. أظهر الصراع الداخلي العميق لشخصيته التي يتستر خلفها، مستعرضًا تناقضاته بين الظهور بمظهر أستاذ جامعي محترم وبين دوافعه المظلمة، حيث كان يبث عبر ملامحه وسلوكياته تناقضًا محيرًا بين الجوانب العامة والمخفية لشخصيته. 

325.jpg

هذا الوحش الذي يختفي وراء احترامه المزيف، يكشف عن دوافعه التي تنبع من شعور بالقوة الزائفة وحقه الموهوم في السيطرة، معتمدًا على وضعه الاجتماعي والسلطوي ليمرر أفعاله دون رادع.

الطفل علي البيلي، في دور “يوسف”، الضحية الصامتة، قدّم أداءً يُثير الإعجاب والقلق معًا، مُجسدًا معاناة الأطفال الذين يواجهون مثل هذه التجارب المؤلمة.

323.jpg

يسرا اللوزي في دور “رباب” كان عميقًا، حيث جسدت الصراع النفسي بين الإنكار والصدمة بعد اكتشافها تحرش زوجها. أظهرت ببراعة التوتر الداخلي والتذبذب بين الضعف والقوة، مما يعكس ألم شخصية رباب وتفاعلها مع الواقع المؤلم بشكل مؤثر.

324.jpg

أسيل عمران، في دورها الذي جسّدت معاناة امرأةٍ تقف على حافة الحقيقة والإنكار، لم تحتج إلى صخب الأداء، أم الطفل يوسف الحقيقة، قدمت أداءً خاليًا من التكلّف، إذ كانت تظهر خيوط القلق والخوف التي تسيطر على الأم التي لا تعرف كيف تحمي طفلها من عالمٍ ملوث.وقد أبدعت في تقديم مشهدها الذي أخذت فيه طفلها إلى الطبيب النفسي.

أما عن العناصر الفنية، فقد تضافرت لتُكمل الصورة:
• الإضاءة: لعبت دورًا محوريًا في إبراز التوتر والدراما، حيث استخدمت الظلال والضوء الخافت لتعكس الحالة النفسية للشخصيات وتُعمّق الشعور بالقلق والترقب.
• الديكور: عكس البيئة المنزلية والمدرسية بدقةٍ وواقعية، مما جعل المشاهد يشعر بأنه جزءٌ من الأحداث، ويُسهم في تعزيز مصداقية القصة.
• الموسيقى التصويرية: جاءت متناغمةً مع الأحداث، تُضيف بُعدًا عاطفيًا يُعمّق من تأثير المشاهد على الجمهور.

الدكتور النفسي.. مرآةُ الألم المسكوت عنه

في قلب المسلسل، يأتي دور الطبيب النفسي الذي لم يكن مجرد شخصيةٍ درامية، بل نافذةً على العالم الداخلي للضحايا والجلادين على حدٍّ سواء. لم يكن دوره وعظيًا، ولم ينطق بحلولٍ جاهزة، بل عكس بحيادٍ علميٍّ التحولات النفسية التي تطرأ على الأطفال الذين يتعرضون للتحرش، والصراع الذي يخوضه الأهل بين الإنكار والمواجهة. أداؤه جاء مكثفًا، يقطّر الألم والوعي في آنٍ واحد، ليُسلط الضوء على جرحٍ تتجاهله المجتمعات، رغم أن أثره لا يمحوه الزمن.

إلى ذلك الرجل الذي يعبث بمشاعر النساء، الذي يزرع الأمل في قلوبهن ثم يتركهن ضحايا لغرائزه، يعود إلى زوجته وكأن شيئًا لم يكن، وينسى أن كل قلب جرحه لن يشفى بسهولة. رسالتي إليك: لا تعتقد أن العودة إلى من تحب ستعفيك من الذنب، ولا أن مشاعرك تُشترى وتُباع. الخيانة ليست فقط في الجسد، بل في الروح والصدق. ومهما تلاعبت بالمشاعر، تذكر أن الحقيقة ستظل تتبعك، ولن ينفعك تجاهل عواقب أفعالك.

وإلى المتحرش الذي يظن أنه يختبئ وراء ستار الاحترام والمكانة، تذكر أن الصمت ليس دائمًا براءة، وأن الألم الذي تسببه لا يغتفر. لا تُخدع بتلك الأقنعة التي ترتديها، فالعين ترى ما يخفيه القلب. مهما طالت الأيام، ستظل جروح الضحايا حية، وحقيقة أفعالك ستظل تلاحقك. ليس كل الوحوش تضع أنيابًا، وبعضها يرتدي أقنعة لتهدم أرواحًا دون أن تترك آثارًا واضحة.

لام شمسية” ليس مجرد عملٍ درامي، بل هو صرخةُ تحذيرٍ ومساءلةٍ للمجتمع بأسره، يُجبرنا على النظر في المرآة ومواجهة الحقائق التي نتجاهلها. تحيةً لكم، يا من جعلتم الفن أداةً للتغيير وكشف المستور.

د. مارغو حداد 
أستاذة في صناعة الأفلام – الجامعة الأمريكية

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق