ما لم تقله "ألف ليلة وليلة"

هسبيرس 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

القارئ للحكايات الشعبية مهما اختلفت وتنوعت الثقافات والشعوب التي أنتجتها قد يلاحظ بأن بعضا منها يتضمن مواطن بياض وصمت عليه العمل على تسويدها واستنطاقها بالرجوع إلى الروايات المختلفة للحكاية نفسها أو إلى حكايات مماثلة بحكم انتمائها إلى نفس السلالة أو إلى الاعتقادات والعادات وأطر الإحالة السائدة في المجتمع الذي تشكلت فيه الحكاية.

عاملان أساسيان يساهمان في بتر الحكاية الشعبية من عناصرها الأصلية إلى حد يجعلها في بعض الأحيان تعاني من النشاز وتصبح بالتالي صعبة الفهم والتحليل. فهناك من جهة عامل النسيان الذي يطال كل المأثورات الشفوية على اعتبار أنها تعتمد أساسا على الذاكرة وتصبح انطلاقا من هذا عرضة للنسيان والتشويه، وهناك من جهة أخرى طبيعة التواصل الشفوي المباشر والتي تدفع بالمتكلم إلى الاقتصاد في خطابه وتقليصه إلى أقل ما يمكن من المكونات وذلك لأن ضيق الفضاءات التي يعيش فيها وبساطة العلاقات التي يدخل فيها وتأكده من أن أطر الإحالة التي يستند إليها مشتركة بينه وبين المتلقي، يجعل من الطبيعي أن يميل إلى اللجوء إلى مبدأ المجهود الأدنى وإلى الامتناع عن الدخول في تفاصيل يعرف جيدا بأن المتلقي على دراية كاملة بها. ولا يفوتنا أن نشير هنا إلى الأهمية القصوى التي أولاها الباحثون الأنغلوسكسونيون إلى هذا العامل وإلى وفرة الدراسات التي خصصوها له تحت مفهوم Contextualization.

فعندما نقرأ حكاية “علاء الدين أبو الشامات”، إحدى حكايات “ألف ليلة” (طبعة بولاق)، نجد بأن المقطع المتعلق بأحمد قماقم السراق يتضمن بياضا على القارئ العمل على ملئه. فأحمد قماقم هذا كان “ينقب وسطانيا ويلقف فوقانيا ويسرق الكحل من العين” ووصل به الأمر إلى أن يحكم عليه الخليفة هارون الرشيد بالسجن مدى الحياة ولذلك فلقد كتبت على قيوده عبارة “مُخلد إلى الممات لا يُفك إلا على دكة المغسل”. ومن الواضح أن عبارة “لا يُفك إلا على دكة المغسل” ما هي إلا صورة مجازية للتأكيد على أن السجين سيبقى رهين المحبس إلى الأبد. إلا أن مسار الأحداث يتخذ منحى آخر ويقرر الخليفة العباسي العفو على أحمد قماقم وإطلاق سراحه ولكن قبل ذلك يوضع هذا الأخير فوق دكة المغسل ويتكفل حداد بكسر قيوده.

ولقارئ الحكاية أن يتساءل: لماذا اضطر أعوان الخليفة إلى تطبيق العبارة المكتوبة على قيود السجين حرفيا قبل أن يطلقوا سراحه؟ على هذا، يجب الافتراض بانه في رواية أخرى سابقة لا يكتفي الخليفة، كما ورد في الحكاية بصيغتها الحالية، بالأمر بالزج بأحمد قماقم في السجن والإبقاء عليه فيه إلى آخر أيام حياته، بل أقسم في لحظة غضب، كما يحدث كثيرا في “ألف ليلة”، بأنه “لن يُفك إلا على دكة المغسل”. وعندما قُرر إطلاق سراح السجين اضطر أعوان الخليفة إلى اللجوء إلى حيلة تمكن هذا الأخير من الرجوع عن قسمه دون أن يتهم بالحنث وذلك بتطبيق يمينه حرفيا. ومن المؤكد أن البياض الملاحظ هنا هو نتيجة مباشرة للنسيان وللصعوبة التي يجدها الحكواتيون بل وحتى النساخ في الاحتفاظ بالنص الكامل للحكاية التي يتوارثونها جيلا بعد جيل. وإذا كان هذا شأن الحكايات التي تم تدوينها فما بالك بتلك التي ظلت محصورة في التداول الشفوي.

لنتطرق الآن إلى العامل الثاني المفسر لطمس عناصر سردية من الحكاية والذي يتعلق كما أسلفنا بالسياق الثقافي الذي يتم فيه التواصل الشفوي. سنختار مرة أخرى مثالا من “ألف ليلة” والأمر يتعلق هذه المرة بحكاية “الوزراء السبعة”. فشكوك الزوج حول احتمال كون زوجته قد خانته مع رجل آخر تتحول بالنسبة إليه إلى يقين عندما يعلم بأنها ذهبت إلى الحمام. وامتناع الحكواتي عن الإفصاح عن العلاقة التي تربط الخيانة بالذهاب إلى الحمام تفسيره أنه يعرف مسبقا بأن المتلقي الذي يوجد أمامه متشبع بالمعتقدات الدينية الخاصة بالجنس كنجاسة يجب التخلص منها بالاغتسال.

هناك مثال آخر من “ألف ليلة” كذلك يتعلق هو الآخر بثيمة النجاسة، ففي حكاية “عزيز وعزيزة” يروي البطل قائلا: “مشيت خطوتين وغلبني حصر البول فقعدت في مكان لأريق الماء ثم إني قمت وتجمرت وأرخيت أثوابي”، وحده القارئ المتشبع بالتقاليد الدينية الإسلامية بإمكانه أن يستوعب دون الحاجة إلى تعليق الحكواتي أو الناسخ الأسباب التي تدفع بالبطل إلى الجلوس القرفصاء لإراقة الماء.

بإمكان القارئ الاعتماد كذلك على رواية ثانية مختلفة لنفس الحكاية المبتورة، هذا طبعا إذا أسعفه الحظ واكتشف وجودها، لتسويد البياض الملاحظ فيها. ففي حكاية “وردان الجزار”، دائما في “ألف ليلة”، يرجع وردان حاملا الكنز الذي استطاع الحصول عليه بعد قتل المرأة والدب الذي اتخذته عشيقا لها، ويقول في نهاية الحكاية مشيرا إلى الكنز: “وعدت به إلى بيتي وفتحت لي دكانا في السوق”، ويختم الحكواتي أو الناسخ معلقا: “وهذا السوق موجود إلى الآن ويعرف بسوق وردان”. من الصعب الاقتناع بهاتين الجملتين الختاميتين والاكتفاء بهما، على اعتبار أنهما تطرحان من الأسئلة أكثر مما تقدمان من أجوبة. فما الذي يدفع بالبطل إلى فتح دكان في السوق وهو يعمل فيها كجزار ويملك، قبل حصوله على الكنز، دكانا فيها؟ ثم هل توجد علاقة ما بين الاسم الذي يحمله، وردان، واسم السوق، “سوق وردان”؟ وبتعبير آخر، هل يكفي أن يملك دكانا واحدا في السوق لكي تحمل اسمه؟

لحسن الحظ احتفظ لنا المؤرخ ابن الدواداري (“كنز الدرر وجامع الغرر”) في معرض حديثه عن الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله، إحدى شخصيات الحكاية وإن يكتفي بدور ثانوي فيها، برواية أخرى تنتهي برجوع وردان حاملا الكنز الذي تمكن من الحصول عليه وبالتعليق التالي: “فبنى منه وردان جميع الدكاكين المعروفة بسوق وردان بمصر”. وهكذا يصبح بإمكاننا سد البياض الملاحظ في رواية “ألف ليلة” والخلوص إلى أن السوق حملت اسم بطل الحكاية لأنه شيدها بأكملها. وعندما نكتشف بأنه كان يوجد فعلا في مدينة مصر (الفسطاط) سوق تحمل اسم وردان ذكرها المقريزي في كتابه “الخطط”، وأشار إليها ابن سعد (“الطبقات الكبرى”) في المادة المخصصة لوردان مؤكدا أنها سميت باسم وردان مولى عمرو بن العاص الذي كان من قادة جيوش المسلمين الذين فتحوا مصر، نجد أنفسنا مرغمين على البحث لمعرفة كيف أن قائدا من الطراز الأول بحيث أعطى اسمه لسوق في مصر يتحول في “ألف ليلة” إلى مجرد جزار يسطو على كنز كان في حوزة امرأة تعيش مختبئة مع الدب الذي اتخذته عشيقا لها.

من غير المستبعد أن تكون فكرة الكنز الذي يتم اكتشافه على يد وردان الجزار مستوحاة من حكاية وردت في بعض المصادر (النويري، “كتاب الإلمام”) مفادها أن وردان التقى عبد الله بن عمر الخطاب (وفي رواية أخرى عبد الله بن عمرو بن العاص) وخاطبه قائلا: “أرسلني الأمير مسلمة أن آتي مصر القديمة فأحفر له عن كنوز فرعون.” على الأرجح فوردان لم يطبق ما أمره به مسلمة بن مخلد الأنصاري (أمير مصر وقتذاك)، على اعتبار أن عبد الله بن عمر بما له من مكانة وهيبة منعه من ذلك. قد يكون الحكواتيون والنساخ على علم بهذه الحكاية وفكروا في الاستناد إليها لإعادة تشكيل شخصية وردان التاريخية وتطويعها حتى يصبح من السهل عليهم تحويلها إلى مادة سردية شعبية. هذه الفرضية تستحق الفحص والتنقيب خاصة وأن الرواية التي احتفظ بها ابن الدواداري تتحدث عن الكنز الذي اكتشفه وردان، على أنه يرجع، كما نجد عند النويري، إلى مرحلة ملوك مصر القدامى الذين ظهروا بعد الطوفان العظيم.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق