
“النّت”.. هذا النظام الرقمي العولمي جعَلنا ننتقل بسرعة من عالم الكتب إلى عالم الروابط الرقمية والنوافذ السريعة والفيديوهات القصيرة.
لقد غيّر من نمط علاقتنا التفاعلية بالمعارف والمعلومات، وبالأخبار أيضاً، وبالتالي فهذا التحول ليس مُجرّد تغيير عادتنا في القراءة، بل إنّ أدمغتنا ذات الطابع المرِن ستتكيّف مع هذه الأنماط الجديدة للتواصل، وبالتالي ستعيد توجيه نفسها بسبب السرعة والكم الهائل من الصور والأخبار والمعلومات والمعارف، التي تُثقل كاهل القدرات المعرفية للإنسان.
أكيد سيصبح كلّ منّا بارعاً في التصفح السريع المتعدد الاهتمامات، لكن الثمن الذي سندفعه هو انفلات تلك الأفكار العميقة التي قد تُغذيها قراءتنا للكتب. هناك تخوّفات لدى الكثيرين من أن يَحُدّ هذا التحول الشامل نحو الرقمية من قدرة الإنسان على التأمل والتفكير العميق، ويدفعه، بالتدريج، نحو التفاعل السطحي مع الخواطر السريعة والفيديوهات القصيرة والمثيرة، التي تتكرّر بلا نهاية على شاشات الهواتف الذكية للأجيال الحالية والمُقبِلة، ممّا قد يدفع بناشئة المستقبل إلى التساؤل: لماذا سنقرأ بينما يُمكِننا المشاهدة؟
هكذا، ربّما، قد يبدو المشهد لدى هذه الناشئة المُقبِلة، إذ أصبح الجلوس مع كتاب، بالنسبة لهم، بمثابة انفصال جذري عن العالم، فأدمغتهم باتت مُشبعة بالمعلومات المجزأة والسريعة، إلى الحدّ الذي يمنعها من التركيز على سردٍ أدبي طويل، أو حجّة فكرية مُعقّدة. فالجلوس، مثلاً، في رُكن مكتبة أو منزل من أجل القراءة ممارسة تتطلّب الوقت والجهد والتركيز، لأن الكتب لا تُستهلك في ثوانٍ، بل على مدار أيام وأحياناً أسابيع، وتتطلّب نوعًا من الالتزام الذي أصبح يبدو غريبًا في عصر الـ “ريلز”، أي تلك الفيديوهات القصيرة المُصمّمة لكي تُنسى في اللحظة التي يظهر فيها المقطع الموالي، الشيء الذي ساهم في تراجع الانتباه المستمر لدى الأفراد تجاه الأشياء والعالم والآخرين.
وفي هذا السياق تبدو فكرة الالتزام بشيء ما مع الآخرين وكأنها ضغط أو قيد على حرية الفرد، إذ بدأنا نجد أنفسنا أمام تحول ثقافي واضح أصبح يَنفُر من الالتزام الجماعي المشترك والطويل الأمد لمصلحة ما يُسمى حرية الفرد واستقلاليته إزاء أسئلة الجماعة أو قضايا المجتمع.
خلاصة القول إنّ تراجع القراءة لا يعني، فقط، فقدان هِواية مُمتعة، بل يعني، أيضاً، فقدان أحد أهم وسائل التأمل العميق واليقظ، الذي كان يمنحنا القدرة على اكتساب التفكير مع الآخرين وبالآخرين، بالإضافة إلى امتلاك القدرة على إيجاد صيغ للعيش المشترك، بهدف استيعاب التعقيدات والتحولات والتحديات المشتركة التي تواجه الإنسانية المعاصرة وتحيط بها من كل جانب.
النشرة الإخبارية
اشترك الآن في النشرة البريدية لجريدة هسبريس، لتصلك آخر الأخبار يوميا
اشترك
يرجى التحقق من البريد الإلكتروني
لإتمام عملية الاشتراك .. اتبع الخطوات المذكورة في البريد الإلكتروني لتأكيد الاشتراك.
لا يمكن إضافة هذا البريد الإلكتروني إلى هذه القائمة. الرجاء إدخال عنوان بريد إلكتروني مختلف.
0 تعليق