قبل سنة، سافرت إلى بروكسيل عاصمة بلجيكا، وجعلت من بين الأماكن التي يجب زيارتها حي مولينبيك؛ لأني سمعت أنه حي يكاد يكون مغربيًّا. وتأكدت من ذلك حين وجدت نفسي وسط أغلبية مغربية في لغتها، وسحناتها، وعاداتها، وأسواقها، فأحسست بدفء عجيب بين أبناء بلدي أو ذريتهم من الشباب. ثم دخلت مطعمًا/مقهى وطلبت شايًا، فجاءني به شاب مغربي أصيل يتكلم الدارجة بطلاقة، ويرحب بي بحفاوة بالغة. فلفت نظري إعلانات صغيرة ملصقة على الجدران مكتوبة بالفرنسية:
“Prière de mettre les écouteurs pour ne pas déranger nos clients.”
ثم نظرت حولي إلى الزبائن، فوجدت كلَّ واحدٍ منهم إما أمامه حاسوب محمول أو هاتف ذكي، كلهم يضعون السماعات في آذانهم، ولا أحد شذَّ عن هذا الالتزام. كما كانت هناك موسيقى عربية هادئة بالكاد تُسمع. فشجعني هذا الهدوء على إخراج كتاب من جيبي، وطفقت أقرأه مرتاح البال.
أما في المقهى الذي أجلس فيه بين الحين والآخر في مدينة مكناس، فلا يوجد من يضع السماعة في أذنيه إلا من رحم ربك! ثم إن الناس في هذا المقهى يرفعون أصوات هواتفهم بشكل رهيب، وكأنهم يصرون على إسماعك ما يظنونه مفيدًا أو مخبرًا أو مطربًا أو مضحكًا. وقد تجد مائدة بها أربعة أو خمسة أشخاص، كلهم يطلقون أصوات هواتفهم دفعة واحدة!
مرة، جلس بجانبي رجل في مثل سني أو أكبر، ثم أخذ ينصت إلى الشيخة تسونامي وهي تغني أغنيتها البورنوغرافية “الحلاوة في كاينة”، فالتفتُّ إليه قائلاً في لطفٍ – مع ابتسامة تليّن تعجبي:
– “آ لشريف، نقص شوية من التلفون!”
– “السمع عندي ناقص.”
– “إيوا، شري ليك السماعات.”
– “قالوا لي كيضرو فالودنين.”
– “واش عارف آش كتقول التسونامي؟”
– “أنا كاع ما كيعجبني كلامها، أنا غير مع الجرة والجفنة.”
– “وبغيتيني حتى أنا نبغي الجرة والجفنة بالسيف؟”
فاغتاظ الرجل، ونظر إليَّ بخبث وقال:
– “نوض آخوي لشي قهوة أخرى ما فيهاش الصداع.”
تكلمت مع صاحب المقهى عن إمكانية كتابة تنبيه للزبناء حتى لا يزعجوا بعضهم، فقال:
– “احنا بالدراع باش قبلوا ما يكميوش لنا فالصالون، عاد نزيدوهم الصناتات!”
وضع السماعات في الأذن فعل حضاري راقٍ، يترجم احترام الناس لبعضهم البعض، وليس تحريمًا لحلال طيب. ورواد هذا المقهى – أغلبهم – يتركون مشروباتهم في عناية النادل حتى يصلي المغرب، ثم يفوزون ببعض الحسنات ليحرقوها بعد ذلك، حين يعودون إلى أماكنهم ويسمعونك قسرًا ما لا تريد سماعه!
وإذا كان صاحبنا أتحفني بكلام تسونامي الساخن، فإن آخرين يسمعونني صراخ مشايخ القتل والترهيب والتحريم، فلا أجد نفسي إلا مودعًا جلسة غير مكتملة؛ بسبب تخلف متجذر لا يحس به أصحابه.
ظاهرة إسماع الآخر محتوى الهاتف بقوة الصوت العالي لا تقتصر على المقاهي، وإنما توجد في كل مكان مغلق: المطارات، ومحطات النقل، والقطارات، والحافلات، وفي العيادات، والإدارات التي تقدم خدماتها بنظام الصفوف، وغير ذلك. إلا أن الناس – الذين كانوا في الماضي يشتكون من المدخنين حتى انمحى الضرر من الأماكن العامة والمغلقة – لا يظهر عليهم أنهم يتضررون من “الصراصير المقلقة” المشوشة على راحتنا البدنية والنفسية في كل مكان. وكما يقول رجال الشرطة: “ما دام ما تشكّى حد، ما كاينش المشكل!”
0 تعليق