أصدر الباحث عبد العلي معزوز كتابا بعنوان “فلسفة الأخلاق وأزمة القيم ما بعد الفضيلة” عن دار سليكي أخوين، وقال إن “السؤال الأخلاقي يندرج في صميم الفلسفة العملية التي تُكوِّنُ بدورها جزءا مهما من الفلسفة إضافة إلى الفلسفة النظرية”، متسائلا: “هل لهذا السؤال معنى بعد انهيار القيم والمعايير التي واكبت موجات الحداثة المتعددة وانعطافاتها الكبرى”.
وأشار معزوز، في توضيحاته حول الإصدار، إلى أن “السؤال ‘ما العمل؟’ أو ‘ما الفعل؟’ لم يعدْ مُحَدَّدا وذا موضوع بل وحتى ذا جدوى، حيث يُطْرَح سؤال عدم الفعل أو اللافعل نفسه في السياق نفسه وله ما يبرره”، متسائلا من جديد: “هل يبقى للأخلاق معنى في ظل انهيار المنظومات المولِّدة للمعنى؟ ثم هل للمذاهب والأنساق الأخلاقية مكان وسط تذري وتفكك المنظومات الفكرية الكبرى؟”.
وأوضح مؤلف كتاب “فلسفة الأخلاق وأزمة القيم ما بعد الفضيلة” أن “زيادة الطلب على الأخلاق لم يكن أبدا بنفس الإلحاح الذي هو عليه اليوم، ولا الحاجة إلى الأخلاق في مجالات الطب والتقنية والاقتصاد والحياة العامة أكثر مَسِيسا مما هو عليه في الحاضر، وراج استعمال مفاهيم ذات مرجعية أخلاقية وإيتيقية مثل ‘البيو-إيتيقا’، وأخلاقيات عالَم الأعمال، وتخليق الحياة العامة والسياسة. ومن مفارقات العصر أن نفس الإلحاح والحاجة يُقابله أفول السرديات الكبرى في عصر ما بعد الميتافيزيقا ومعها القيم الأخلاقية والإيتيقية”.
وشدد الكاتب ذاته على أنه “لا يمكن للإيديولوجيات الكبرى ولا للسرديات الشمولية أن تُشَرَعِنَ قِيَما، أو تؤسس أخلاقا، أو تُنْشِئَ إيتيقا، ولَمْ تُيَسِّر النزعة الفردانية الأمر من أجل ظهورِ انبعاثٍ أخلاقي؛ بل أدَّى إلى ظهور تضخُّمٍ نرجسي لدى الإنسان المعاصر، وإلى احتضان نزعات هيدونية تُعلي من شأن المتع والملذات الحسية”.
وورد ضمن التوضيحات أن “المطلب الأخلاقي المعاصر قد اهتدى واسترشد بأعلامٍ ومؤسِّسينَ من أمثال إسبينوزا وكانط ونيتشه وهيدغر، الذين حققوا تحوُّلا وانعطافا من النموذج الأخلاقي اليوناني، وإنْ ظلَّ هذا النموذج مُلْهِما حتى اليوم؛ لأن في ميدان الأخلاق لا شيء يصير مُهْمَلا، ولا يحصل تقدُّمٌ يقطع نهائيا مع السابق من الحِكَم والآداب، ومن الأخلاق وتهذيبها، وإِنْ تغيَّرَت الوُجُهَات، وتشعَّبَت الطرق، واختلقت الأهداف والغايات، فما زالت ‘الأخلاق إلى نيقوماخوس’ تعلِّمُنا، وما زالت شذرات الرواقية وحِكَمُهَا تُفِيدُنَا”.
وقال معزوز: “سَنُعرِّجُ في تحليلنا للإشكال الأخلاقي إلى مقالات الفلاسفة والمفكِّرين المسلمين، الأوائلِ منهم والمحدَثين؛ مثل رسالة الكندي في دفع الأحزان عند الكندي، وسبيل البحث عن السعادة عند الفارابي، وتهذيب الأخلاق لدى بن مسكويه دون إِغْفَالِ تأويلات المُتَفَلْسِفَة العرب المعاصرين لمقالاتهم تدليلا على أصالتهم أمثال محمد عابد الجابري ومحمد أركون وائل الحلاَّق”.
وبالنظر إلى محاضرات جون راولز في تاريخ فلسفة الأخلاق، أشار عبد العلي معزوز إلى أنه “مَيَّز الأخلاق اليونانية بتمركزها حول مفهوم الخير باعتباره ما يدلُّ على الفعل الصائب؛ فالخير الأسمى هو الجامع بين مختلف أنواع الخير. أمَّا فلسفة الأخلاق الحديثة فتَمَحْوَرَتْ حول مفهوم الحق أو القانون، وأوامر العقل المطلقة (كانط) مع استحضار الفارق التاريخي المتمثِّل في فكرة الإصلاح الديني، ونشأة الدولة الحديثة، وتطوُّر العلم الحديث”.
وأكد معزوز أنه “يمكن في هذا الصدد الاهتداء والاسترشاد بأفكار ميشال فوكو، وأهمُّ ما يمكن الاهتمام به هو فكرة الانهمام بالذات (le souci de soi) أو الاهتجاس بالأنا”، مضيفا أن “هذا يقتضي الخروج من البراديغم الأخلاقي الكانطي والبحث عن براديغم إيتيقي تُؤسَّس عليه علاقة الذات بنفسها، وتُدبِّرُ أفعالها بمقتضى ما تتطلبه سيرة حياتها وأشكال ممارساتها”، مشيرا إلى أنه “من استعمال المتع إلى الاهتجاس بالذات هناك مسار جينيالوجي يعيِّنُ ما يتوجب فعله وتدبُّرُهُ في سبيل تحقيق حياة عملية جديرة بأن تُعاش”.
وقال الكاتب إن “الاعتناء بالذات من أهمِّ الدروس التي تعلمنا إياها الفلسفة؛ لأن هذه الأخيرة تتيح فرصة الانكباب على الذات، والاهتمام بالذات نمطُ حياةٍ وشكلُ عيشٍ..
وهكذا كانت فلسفات ‘سينيكا’ و’بلوطارك’ وغيرهم من الرواقيين والأبيقوريين تدعو إلى خدمة النفس بالمعنى الاستشفائي والعلاجي؛ ومنها طرق ضبط النفس أمام الأقدار والتحكُّم في الذات أمام المصائب، وسبُل ترويضها وتقويمها، وتعويدها على عدم الجزع والخوف من الموت”.
وختم عبد العلي معزوز توضيحاته بالإشارة إلى أن “إتيقا الذات هي كل ما تبقى من الأنساق الأخلاقية الكبرى من منظور فوكو، وهي تعتمد على نسج علاقة خاصة بين الذات ونفسها، من خلال استعمال سبل وطرائق، وتوظيف وسائل وتقنيات تحقِّقُ مسألة تدبيرها والاعتناء بشؤونها وقيادتها بما يضمن سعادتها”.
0 تعليق