أحمد الخميسي يكتب: كم من الوقت يحتاجه الإبداع؟

الصباح العربي 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

طالما ناوشني السؤال عن طبيعة العلاقة بين الابداع والزمن الذي يستغرقه الفنان أو الروائي ليكتمل عمله. ومما يثير الدهشة في ذلك السياق أن عملا روائيا مثل " دون كيخوت" استغرق من كاتبه العظيم سرفانتس بجزأيه الاثنين نحو ستة عشر عاما كاملة ما بين 1605 و 1615، بينما أتم الكاتب البريطاني جون بوين مسودة روايته الشهيرة " صبي في بيجاما مخططة " في يومين ونصف اليوم فقط ! على حين انتهى الكاتب الأمريكي جيروم سالينجر من روايته الرائعة " الحارس في حقل الشوفان" في عشر سنوات! الروائي الياباني البريطاني كازو إيشيجورو الحائز على نوبل قال إنه كتب روايته " بقايا النهار" في أربعة أسابيع فقط ! بينما استغرقت كتابة رواية مارسيل بروسيت الشهيرة " البحث عن الزمن المفقود" أكثر من 13 سنة، ما بين 1909-1922. في الأدب العربي لدينا نماذج قليلة من الأدباء الذين كان بوسعهم الانتهاء من عمل في زمن قياسي، على رأسهم يوسف السباعي الذي سجل في مقدمة روايته " إني راحلة" قوله : " انتهيت من القصة بعد عشرين يوما" والقصة تقع في نحو أربعمئة صفحة كاملة! والأمثلة كثيرة حتى بين أدباء عظام مثل ليف تولستوي الذي ظل يكتب وينقح في قصة " السيد والخادم" على مدى أكثر من خمسة عشر عاما بطولها ! وهناك عوامل تقود للكتابة بسرعة فائقة منها الديون التي حاصرت الروسي دوستويفسكي صاحب رواية الأبله وكان يلاحق مجلة أسبوعية بأجزاء رواياته أولا بأول لكي يسدد إيجار المسكن ونفقات الحياة اليومية، فكتب رواية " المقامر" في أقل من شهر تحت ضغط الحاجة الشديدة للمال، لكن هناك اعتبارات أخرى ليست خارجية بل داخلية تؤدي أحيانا إلى الكتابة في زمن قياسي، كأن يكون الكاتب في قبضة شعور حاد بالوحدة أو الظلم أو الحزن على فراق الحبيبة، بينما يحتاج الموضوع في بعض الروايات - خاصة التاريخية- إلى تنقيب طويل في المراجع مثلما فعل تولستوي في " الحرب والسلام". الملاحظ أيضا أن الخبرة الطويلة والمراس قد تجعل الكاتب يكتب في زمن قياسي، وفي هذا المضمار هناك نكتة عن بيكاسو حين أتاه شخص ليشتري منه لوحة، فقال له بيكاسو إنه يبيعها بمئة ألف دولار، فسأله المشتري: لكن عفوا كم من الوقت استغرق رسمها ؟ قال له بيكاسو: نصف يوم، لكن وراء ذلك النصف يوم خبرة ثلاثين عاما! يحدث أيضا في مجرى العملية الابداعية أن تتوهج الفكرة شبه مكتملة، تكاد تقول : اكتبوني، كما يحدث العكس حين تظل فكرة العمل تروغ من الكاتب وهو يحدق بها ويحاول القبض عليها، وبذلك الصدد يقول يوسف ادريس في قصته " ربع حوض" من مجموعة أرخص ليال : " إن الفكرة شيء انساني عجيب، فهي دائما تتطلب عملا وجهدا واحيانا تخطر للإنسان فكرة فيظل يستضعفها ويهملها وهو كاره ما ورائها من عمل حتى يقتلها، وأحيانا تخطر له فكرة فيها جدة وفيها روعة ولذة فتقلب هدوءه رأسا على عقب،؛ وتنفخ فيه اطنانا من النشاط". وما من قاعدة تحكم العلاقة بين الابداع والزمن الذي يستغرقه ليخرج إلى النور، لأن الابداع عملية معقدة، تدخل فيها العوامل النفسية، والخبرة الأدبية، وظروف الكاتب الشخصية، كما تدخل فيها ارادة الكاتب التي رأينا في نجيب محفوظ أفضل نموذج لها. العلاقة معقدة مادام الابداع عملية مركبة تجمع بين الإلهام، والتخطيط، والحرفة، والتجربة الشخصية، ومع ذلك فإن تلك العلاقة جديرة بالتأمل ربما نتمكن من القبض ولو على بعض قوانين تلك العلاقة.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق