في حضن جبال الريف، حيث يتعانق النسيم العليل بأريج الزهر والياسمين، وتنساب الأزقة الضيقة كخيوط من حرير، ترقد تطوان عروسة تختال في وشاحها الأندلسي المطرّز بعبق التاريخ.
بين الجدران البيضاء والأبواب الخضراء تحفظ المدينة سرا من أسرار العشق، شاهدا على نبض الحياة التي خفقت في صدور من مرّوا بها، وتركوا فيها بصمات من حب وحنين.
من بين تلك الزوايا الدافئة التي كانت تحتضن عبق الزمان “بتطاون أيام زمان” يبرز “رياض العشاق” كباحة شاعرية اختزلت بين أشجارها ونافوراتها ذاكرة مدينة، وملاذ قلوب أنهكها الشوق فوجدت فيه سكنا وسكينة.
التسميات الثلاث
يعود إحداث رياض العشاق، ذاك الفضاء الواقع في وسط مدينة تطاون، إلى سنة 1926، وفق روايات شفهية متداولة، وجاء ذلك بإشراف من الجنرال الإسباني “أوركاس”، حيث صممه المهندس “خوسيه خيتيريس ليسكورا”، الذي استلهم في تخطيطه روح الحدائق الأندلسية، بما تحمله من تناغم بين الماء والخضرة والمعمار التقليدي.
وأفاد عدد من سكان المدينة الذين عايشوا مراحل تحول “رياض العشاق”، في تصريحات متطابقة لجريدة هسبريس الإلكترونية، بأن الحديقة عرفت ثلاث تسميات، تحمل كل واحدة منها بصمة زمنها، إذ أُطلق عليها في البداية اسم “باركي لا لونيتا”، أي “حديقة النافذة”، لكونها كانت تطلّ على باقي المدينة، كما لو كانت عينا تراقب نبض تطوان من عليائها.
كما يتداول أهالي تطوان أن الحديقة تم تغيير اسمها في ما بعد إلى “باركي كاخيكاس”، تكريما لأحد القناصل الإسبان البارزين في المنطقة، قبل أن تُعاد تسميتها بـ”باركي دي لوس أمانتيس”، أي “حديقة العشاق”، وهو الاسم الذي ارتبط بها في الذاكرة الجمعية للتطوانيين. وتحمل الحديقة حاليا تسمية رسمية هي “حديقة مولاي رشيد”، لكنها، في قلوب أهل تطوان، ظلّت وستظلّ رياض العشاق، فضاء لا يأسره الاسم بقدر ما تحييه الروح التي تسكنه.
بين الأمس واليوم
يقر التطوانيون والتطوانيات بأن حال “باركي دي لوس أمانتيس” اليوم لا يسر ناظرا بعدما أصبح مرتعا للمتشردين و”الجناكا” وفق المنطوق المحلي لساكنة الشمال، ليتحول بذلك من حديقة بأشجار سامقة تغرد فيها الطيور في الصباحات النقية إلى “بورديل” ومزبلة حقيقية يغرد فوقها الغراب ويندب، وهذا أقل ما يمكن رصده من إهمال.
يحكي أدم أفيلال، فاعل جمعوي ومدون “فيسبوكي” بمدينة تطوان، عن سنوات الزمن الجميل عندما شكل هذا الفضاء مجمعا للنفوس الحالمة، قبل أن يمر الزمن بثقله وخفته، ويبدل ملامحه من فضاء يجمع بين الجمال والخضرة والوجه الحسن إلى مرتع للمختلين عقليا ومبعثا للقاذورات والفضلات البشرية.
بذكريات حبٍ نقيٍ يعكس روحية المدينة وأخلاق أهلها أورد أفيلال أن الفضاء العمومي المذكور شكل انعكاسا لروح تطوان الأندلسية، بممراته المرصعة بالزليج ونافوراته وأحواضه المائية التي تسبح فيها الأسماك الملونة، تنساب معها الألحان الأندلسية و الفلامينكو كجدول رقراق.
واستنكر المتحدث ذاته، في تصريح لجريدة هسبريس الإلكترونية، الوضعية المزرية التي يعيشها الفضاء بعدما طاله إهمال شديد، أسهم في اختفاء الحيوانات والأسماك، ليتحول تدريجيا أواخر القرن العشرين إلى فضاء موحش ومرتع للمجرمين والمشردين.
وأشار الفاعل الجمعوي إلى محاولات سابقة لإعادة تهيئة رياض العشاق، إلا أن هذه التهيئة لم تصمد طويلا لتتدهور معالمه رويدا رويدا، داعيا الجهات المعنية والمختصة إلى التدخل العاجل وتأهيل الفضاء وتثمينه وتوفير حارس دائم ومراقبة بالكاميرات حتى يكون متنفسا لساكنة المدينة ومحجا لزوارها.
وبين الأمس واليوم يبقى رياض العشاق قصيدة مفتوحة… تكتبها الأجيال، وتقرؤها الأرواح العاشقة، ينتظر تدخلا عاجلا يعيد له بريقه المفقود؛ فهل يتدخل عامل إقليم تطوان ورئيس المجلس الجماعي؟ وحدها الأيام كفيلة بتقديم الجواب.
0 تعليق