إبداع الإنسان و"عبقرية الآلة".. هل يهدد الذكاء الاصطناعي فن الرسم؟

هسبيرس 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

في زمن تتسارع فيه وتيرة التطور الرقمي والتكنولوجي ويزداد فيه حضور الذكاء الاصطناعي في تفاصيل حياتنا اليومية، طغى على منصات التواصل الاجتماعي اتجاه جديد يجذب الأنظار والمتمثل في تحويل الصور إلى رسومات فنية مدهشة بضغطة زر.

هذا الاستخدام المتنامي للتقنيات الذكية أثار تساؤلات عميقة في الأوساط الفنية والإعلامية؛ من قبيل: هل يُنذر هذا التحول بانتهاء عصر الرسامين والكاريكاتيريين؟ أم أن للريشة البشرية سحرا لا يستطيع الذكاء الاصطناعي محاكاته مهما بلغ من تطور؟

وغصت مواقع التواصل الاجتماعي، خلال الأيام الأخيرة، بإقبال منقطع النظير على استخدام “جيبلي ستايل”؛ فقد قام أزيد 130 مليون شخص بالاستعانة بـ chat gpt لتحميل أزيد من 700 مليون صورة مرسومة ومعدلة، الشيء الذي حول هذه التقنية إلى ترند على المستوى العالمي ما تسبب في تعطل ضغط كبير وانقطاع هذه الخدمة.

الدهدوه: وحش رقمي

عبد الغني الدهدوه، رسام كاريكاتير محترف، قال لهسبريس إن البشرية عرفت، عبر تاريخها الطويل، أطوارا من التغيرات والتحولات الكبرى انتقلت خلالها من نمط عيش إلى آخر مغاير تماما؛ مثل التحول من الصيد إلى الزراعة، ومن الزراعة إلى الصناعة.

وأضاف رسام الكاريكاتير، الحائز على الجائزة الثانية في المسابقة العالمية “غولد بانسل” التي تنظمها منظمة “غولد باندا” الصينية: “نحن اليوم على أعتاب لحظة مفصلية، يقف فيها العالم أمام زحف كاسح لوحش لا تقتصر وظيفته على تسهيل المهام فحسب؛ بل ليعيد تشكيل نمط حياة الإنسان المعاصر برمته، في اتجاه لا يمكننا بعد أن نحدد ملامحه بدقة”.

وأبرز الدهدوه: “نحن اليوم أمام ثورة رقمية عاتية بوجهين؛ أحدهما يبشر بخدمات جليلة للبشرية، فيما يُخفي الآخر ملامح سلبية ما زلنا نجهل مداها وحدودها حتى الساعة”، موردا أن “الذكاء الاصطناعي لا يزال في مراحله الأولى، يحبو كطفل وليد؛ لكنه ينمو بوتيرة مذهلة تكاد تعجز العقول عن ملاحقتها. وفي غضون سنوات قليلة فقط، قد يجد هذا الكائن الخرافي نفسه في موقع السيادة، موجها نمط حياة الإنسان على هواه، وراسما ملامح عصر جديد لا يُشبه ما عهدناه من قبل”.

أكد الرسام الصحافي ذاته أن تأثير هذا الكائن الرقمي الجارف لن يستثني شيئا من حياة الإنسان، وسينفذ إلى كل زاوية من زوايا وجوده، معطيا المثال بالفن، وتحديدا فن الرسم، مبرزا أن الذكاء الاصطناعي أبان منذ بداياته عن موهبة خارقة تجاوزت حدود المعقول وأذهلت المتابعين.

نهاية “ارسمني عافاك”

أردف الدهدوه: “لقد شهدنا جميعا انتشار استخدام “جيبلي استوديو” في تحويل الصور إلى لوحات حالمة على منصات التواصل، حتى بدا الرسم مجرد لعبة خفيفة تُنتَج بلمسة زر، مكتملة الظلال والألوان والتفاصيل المُدهشة، مجهزا على العبارة التقليدية “ارسمني عافاك”، إذ لم يعُد الناس في حاجة إلى طلب يد ترسمهم، فقد رُسموا جميعا في ثوان، بضغطة واحدة، ودون أدنى انتظار.

وتابع متسائلا: “فماذا يعني كل هذا؟ هل نحن فعلا على أعتاب نهاية فن الرسم كما نعرفه؟ وهل سنشهد أفول مهنة عريقة اسمها “الرسام”؟ ليجيب: “الواقع أننا نقف اليوم أمام تحول رقمي لا يزال في مراحله الأولى، ومع ذلك يعجز الكثيرون عن استشراف تداعياته الكاملة على المدى البعيد.. صحيحٌ أن الفن سيبقى، وسيتواصل بأشكال جديدة، حتى وإن أصبح الذكاء الاصطناعي جزءا من أدوات إنتاجه؛ ففي نهاية المطاف، سنحصل على “فن”، ولو اختلفت اليد التي تصوغه.

وختم الدهدوه تصريحه بالتأكيد على أن مصدر القلق الحقيقي لا يتعلق بمصير الفن كقيمة، بل بمصير الفنان كفاعل؛ فالرسام، بوصفه صاحب مهنة وحرفة وهوية إبداعية، سيجد نفسه في مواجهة تحديات غير مسبوقة، وتحولات متسارعة قد تهدد وجوده المهني، وهو ما يفرض عليه، من الآن، أن يعيد النظر في أدواته، وأن يبحث عن سُبل جديدة للتأقلم مع واقع رقمي متقلب، يحمل من الفرص بقدر ما يحمل من التهديدات.

الخو: أداة جامدة

الفنان التشكيلي ورسام الكاريكاتير محمد الخو قال إن الترند المتعلق بتحويل الصور إلى رسومات بواسطة الذكاء الاصطناعي يعد موضوعا جديدا وشيقا، يستحق المتابعة والاهتمام.

وأكد الخو، في تصريح لهسبريس، أنه من الضروري، بل من واجب الفنانين جميعا أن يشاركوا بفعالية في تعميق النقاش حوله، لما يحمله من تحولات قد تمس جوهر العملية الإبداعية ومفهوم الفن ذاته في العصر الرقمي.

وبالنسبة للخو، فمهما بلغ الذكاء الاصطناعي من تطور، سيظل في نهاية المطاف أداة جامدة تفتقر إلى الروح الإنسانية، فلا يمكن أن نعتبر ما يُنتجه فنا بالمعنى الحقيقي للكلمة، لأن الفن الأصيل لطالما ارتبط بمشاعر الفنان ووجدانه وتجربته الذاتية.

أما في حالة هذا “الترند”، أورد الفنان التشكيلي عينه فإن ما نراه لا يعدو كونه أعمالا مكررة تفتقر إلى العمق والخصوصية، وتُنتَج لحظيا بلا جهد فكري أو لمسة شعورية تُضفي عليها الحياة.

الإبداع.. بين الإنسان والآلة

قال الرسام التشكيلي الخو: “أعتقد أن الذكاء الاصطناعي يسهل على الفرد تنفيذ أفكاره وتحويلها إلى صور بلمسة زر، إلا أنه لا يصنع إبداعا أصيلا، على اعتبار أن الإبداع، في جوهره، يظل حكرا على الإنسان، لأنه ينبع من أعماقه ومن هواجسه وأسئلته الوجودية، من ألمه وفرحه، ومن تفاعله مع العالم بكل ما فيه من تناقضات. أما الآلة، فهي لا تعي هذه المشاعر ولا تعيشها؛ وبالتالي فهي عاجزة عن مضاهاة الفنان الواعي، الذي يُحمل فنه بعدا إنسانيا لا يمكن تقليده أو استنساخه.

وأورد المتحدث ذاته: “صحيح أن التقنية تتطور باستمرار، وأن أدوات التعبير الفني تتغير مع الزمن؛ لكن جوهر الفن لم يتغير: إنه نقل التجربة الإنسانية، ومحاولة التأريخ للوجدان الجمعي واللحظة الفردية معا. فالقيمة الحقيقية لأي لوحة أو كاريكاتير لا تكمن في دقتها أو إتقان تفاصيلها فحسب، بل في الروح التي بثها فيها صاحبها، وهذه الروح، ببساطة، لا تملكها الآلة… ولن تملكها أبدا”.

وأكد رسام الكاريكاتير أن الكاريكاتير ليس مجرد رسم؛ بل هو فن يقوم على السخرية الذكية والرؤية النقدية الثاقبة، وهما مهارتان إنسانيتان خالصتان لا يمكن محاكاتهما آليا.

وزاد متابعا: “الذكاء الاصطناعي قد يُحسن تقليد الأشكال؛ لكنه يبقى عاجزا عن التقاط اللحظة الساخرة أو إدراك تعقيدات الواقع البشري كما يراها الفنان بعينه الناقدة؛ فالجمهور، مهما تغيرت الوسائل، سيظل يبحث عن تلك اللمسة الإنسانية التي تمنح العمل الفني صدقه.

العيادي: الملكية الفكرية في مهب الريح

قال الفنان التشكيلي عبد اللطيف العيادي إن الصور التي يُنتجها الذكاء الاصطناعي اليوم، دون عناء أو جهد، تمثل نوعا من الاستنساخ المباشر لأساليب فنية أصيلة؛ من بينها أسلوب المخرج الياباني الشهير هاياو ميازاكي، الذي كرس معظم حياته في رسم الشخصيات السينمائية وإخراج أفلام الرسوم المتحركة.

وأضاف العيادي، في تصريح لجريدة هسبريس الإلكترونية، أن ما يحدث اليوم يطرح إشكالا حقيقيا يتعلق بانتهاك حقوق الملكية الفكرية؛ بالنظر إلى إنتاج أعمال تحمل بصمة فنية واضحة لفنانين معروفين، دون إذن أو اعتراف، وهو ما يستدعي نقاشا قانونيا وأخلاقيا.

واعتبر الفنان التشكيلي نفسه ما يقوم به الذكاء الاصطناعي اليوم اجترارا ومحاكاة تبقى محصورة في نطاقها البارد وغير الإنساني، خالية من الحس الفني. ففي حين أن الإبداعات الفنية تعتمد على الخامات والمواد الملموسة، حيث يلمس الفنان الورق ويتحسسه، ويستشعر رائحته، ويحرك القلم بكل دقة ليصنع الألوان ويخلطها، فتنتج أعماله التي تتميز بالخلود والتفرد، فإن الذكاء الاصطناعي يعجز عن تحقيق ذلك.

وبالإضافة إلى ذلك، لا يمكن مقارنة العمل الذي يولده الذكاء الاصطناعي بالعمل الفني الذي يصنعه الإنسان من حيث القيمة الفعلية؛ فالأعمال المولدة عبر هذه التقنية تتسم بالكثير من الاستنساخ والتكرار، وتعتمد على خوارزميات جافة تفتقر إلى الروح والتجربة الإنسانية التي تُضفي عليها عمقا وأصالة.

وختم العيادي تصريحه لهسبريس بالإشارة إلى أن الفنان التشكيلي أو رسام الكاريكاتير هو إنسان ذو مشاعر وأحاسيس مرهفة، يتفاعل مع محيطه ويؤثر فيه ويتأثر به، إذ إن إبداعاته لا تُستمد فقط من التقنية أو الأدوات؛ بل تعتمد على مجموعة من العوامل الإنسانية التي لا يملكها الذكاء الاصطناعي، مثل المواد والخامات الملموسة التي يستخدمها، بالإضافة إلى تجاربه الشخصية وإنسانيته، وفلسفته في الحياة.

وأكد الفنان التشكيلي أن الذكاء الاصطناعي لن يستطيع أبدا أن يحل محل الفنان، الذي يمتلك لمسته الفنية الخاصة، والتي تُمكنه من ترك أعمال خالدة وفريدة تنبض بالحياة والروح.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق