ندوة تكريم علي أومليل تفتح صفحات من تاريخ الدرس الفلسفي المغربي

هسبيرس 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

خلال تكريم علَم من أعلام الدرس الفلسفي بالمغرب، الأكاديمي والمفكر والحقوقي والدبلوماسي علي أومليل، شهد المكرَّم على بدايات الدرس الفلسفي الحديث بالجامعة المغربية وجدواه والأسئلة الكبرى التي شغلت المشتغلين به، ومنهم كاتب “السلطة الثقافية والسلطة السياسية”.

جاء هذا في ندوة تكريمية استقبلتها كلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة محمد الخامس بالرباط، نظّمت في إطار سلسلة “فكر واعتراف” لشعبة الفلسفة بالكلية بتعاون مع مركز روافد للدراسات والأبحاث، وعاد فيها أومليل إلى أول مرّة وقف فيها بقاعة ندوات “الشريف الإدريسي” التي استقبلت اللقاء “أوائل الستينيات، وكان الأساتذة المغاربة حينئذ قلّة”؛ مثل الراحلين محمد عزيز الحبابي، وعبد الواحد الراضي، والحاضر باللقاء محمد الناصري علَم الجغرافيا المغربية. والتحق بهم بعد ذلك أساتذة من قبيل عبد الله العروي، ومحمد القبلي، ومحمد عابد الجابري، “وكان أغلب الأساتذة أجانب؛ فرنسيين وإنجليزا وإسبانا وألمانا”.

في هذه الكلية درّس أومليل الفلسفة، وتساءل: “ماذا يعني أن يدرّس مغربيٌّ الفلسفة للمغاربة؟ هؤلاء المغاربةُ لديهم ثقافة عربية إسلامية، وأنتَ الذي أتيت لتدرّس لهم الفلسفة، ما نصيب الفلسفة في ثقافتك العربية الإسلامية؟”، ثم أردف قائلا: “كانت الفلسفة مقبولة ومرفوضة، في تراثنا العربي الإسلامي. مقبولة لعلومها الداخلة تحت خيمتها: الرياضيات، الفلك، الطب… بل كانت هذه تأشيرة دخول الفلسفة إلى الأعيان والمجتمع الإسلامي العربي، وكثير من الفلاسفة لقوا حظوتهم كأطباء، واعتمدوا على مهارتهم الطبية في الدفاع عن الفلسفة، أو على الأقل حماية أنفسهم من العامة، والفقهاء الذين يحرضون العامة” مثل ابن رشد، وابن زهر، وابن سينا.

لكن، رغم حضور الفلسفة في المجتمع العربي الإسلامي، فإنها “لم تكن متجذرة في هذه الثقافة، بخلاف الفلسفة في التراث الأوروبي. ودرَس طلبتنا الفلسفة لأننا أخذنا البرنامج الفرنسي، فأخذناها فقط. أما سؤال هل سنستطيع إدماجها في ثقافتنا المغربية والعربية المعاصرة (فسؤال آخر)”.

وذكر علي أومليل أن “الفلسفة أوروبية الميلاد، يونانية. والفلاسفة هم مؤسِّسون كبار، فهم مؤسسو الفكر السياسي الحديث ومفاهيمه الأساسية مثل السيادة للأمة، والعقد الاجتماعي… ومؤسّسو النظرية العلمية، والاقتصاد السياسي… والفلاسفة الأوروبيون منذ القرن الثامن عشر دخلوا معمعة بناء المجتمع السياسي؛ في حين إن فلاسفتنا القدماء كانوا بعيدين عن السياسة، شرحوا الفكر السياسي لليونان، ولم يفهموا فيه شيئا، لأن السياسة اليونانية توحي إلى المدينة اليونانية ونظامها السياسي والقضائي الذي لم يكونوا يعرفونه. فلم يصِر فكرهم السياسي تدبير المدينة والدولة، بل تدبير النفس، ودعوا إلى العزلة، لا أن يمدوا فلسفتهم لعموم الناس”.

ومن هنا، تفهم أقوال إن “العامة لا شأن لهم بالفلسفة، ولخطورتهم فدعهم “خلّيهم (بالدارجة) لا توقظ ذلك الجمل!”، وابن سينا مثلا دعا إلى أن يكون الفلاسفة كخفافيش الليل، وابن باجة كتب تدبير المتوحد، أي المعتزل، بخلاف الفلسفة الأوروبية، التي دخلت معمعة بناء المجتمع والسياسة”.

ما العمل، إذن، في بدايات الدرس الفلسفي المغربي الحديث؟ كان هذا السؤال الذي طرحه أومليل على نفسه في ستينيات القرن العشرين، مسائلا دور “الباحث في الفلسفة ومدرّسها مغربيا وعربيا، وكي يمكنه إدماج الفكر الفلسفي في الثقافة المغربية المعاصرة؟”. بعد ذلك انتقل إلى سؤال: “ما الأفكار الأساسية التي خاض فيها دارسوا الفلسفة عندنا، أو الباحثون في الفكر الفلسفي عندنا؟”.

فكانت الإشكالية الأساسية التي وقف عليها هي: “ثنائية التقدم والتأخر” بشكل صريح أو مضمر؛ لأن “التاريخ دار دورته فألقى بنا إلى قارعته. فكان سؤال كيف نعود إلى طريق التاريخ السيار، وكل واحد يجد لذلك جوابا”، وهذا ما يفسّر كون موضوع التراث “من أهم مواضيع الفكر الفلسفي (بالمنطقة)؛ لأننا لسنا طارئين على الدنيا، ولم (يقطر بنا سقف)، بل لدينا حضارة”.

إذن، “فرض الدرس التراثي نفسه، واحتل مكانا كبيرا في أبحاث مثقفينا”، وكانت “المواقف المعروفة” بين “دراسة التراث بعقلية تراثية، تراهُ لم يفرّط في شيء. ومن يقولون إن التراث عائق، والحداثة هي القطع معه للتقدم السريع. والموقف الثالث الذي هو قرّاء التراث من التقدميين والثوريين الذين أوجدوا في التراث ما يثبت اتجاههم التقدمي، خاصة الفلاسفة العرب الماركسيين، وأغلبهم في المشرق: فاختاروا الفلاسفة والمعتزلة وابن خلدون، واعتبروهم ممثلي الحداثة في التراث، رغم تناقض هذا الكلام؛ فحمّلوا هذا التراث ما لم يحتمل”.

من أوجه هذا التناقض، وفق أومليل، كون مفكّري هاته الفئة “قد جعلوا ابن خلدون مؤسس علم الاجتماع والاقتصاد السياسي… وغاب عنهم أن المفاهيم والعلوم لها شهادة ميلاد، والأفكار ليست خالدة أزلية تدور في السماء، وتتنزل على هذا المفكر أو ذاك في عصر. وليؤسّس ابن خلدون علم الاجتماع ينبغي أن يوجد مجتمع، بمعناه المدني الحديث، الذي تكون فيه الدولة المدنية والحركة الاجتماعية من أحزاب ونقابات… وهو ما وجد في القرن التاسع عشر. ومعه تأسس العلم المعبر عنه، في المجتمع الفرنسي بعد الثورة الفرنسية، علما جديدا أسسه أوغست كونت، بعد انتهاء النظام القديم، والعهد الجديد الذي لم يستقر، فتأسس علم الاجتماع لاستقرار المجتمع الجديد، وجاء إميل دوركايم مع الثورة الصناعية الثانية التي خلقت مجتمعا جديدا، فقدم هذا العلم للمجتمع الجديد. أما ابن خلدون فابتكر علم العمران، وهو علم جديد؛ لكن لما بحث عن تطبيق هذا العلم، طبقه في التاريخ، فكانت ثمرته أو جدواه ونفعه في تصحيح أخبار التاريخ. ولم يطبقه على المجتمع. لكن حالة ابن خلدون نادرة، فقد أدرك أن هناك شيئا اسمه مجتمع وله موضوعيته وحري به أن يبني عليه عِلما جديدا، ولو لم يجد المجتمع إلا أنه قد سبق التصور المجتمعي قبل نشأته”.

وعاد أومليل إلى إشكالية التقدم والتأخر، قائلا إن وعيها أمر جديد في المجتمع العربي الإسلامي؛ “لا لأن الغرب هزمنا فقط وتساءَلنا ما سر قوته؟ وكيف وصل إليه؟ بل أوروبا هزمتنا في الماضي أيضا، واحتلت إسبانيا والبرتغال شواطئ الشمال الإفريقي، والصليبيون احتلوا جزءا من البلاد العربية والقدس، ومن عاصروا هذه الهزائم ما فكروا يوما أن أوروبا متقدمة عليهم، بل رأوا في ذلك هزيمة عسكرية، فلم يتأسس فكر مقارن على ثنائية التقدم والتأخر”.

وقدّم المفكر مثالا بـ”المشروع الإصلاحي الكبير لأبي حامد الغزالي ‘إحياء علوم الدين’، الذي اعتبر أن المسلم في حاجة إلى الإصلاح في جميع المناحي، وسقطت القدس في عهد كتابة مشروعه. ومع ذلك لا نجد عنده هذا الشعور بالتخلف التاريخي؛ بل الإصلاح عنده يتم بتجديد الإسلام، وتقريب فجوة المسلمين عن الإسلام، بعد ابتعادهم عنه. أما التفكير في أن وراء انتصار الغرب الحديث، العسكري، نظام متقدم للدولة والاقتصاد والحقوق، فلم يكن”.

وحول “المقارنة الدائمة بيننا وبين أوروبا والغرب”، ذكر أومليل أنه “منذ سنوات بدا له الخروج منها، والنظر إلى آسيا، بما أن لنا كعرب ومسلمين حالة إصلاحية منذ القرن التاسع عشر، فيمكن أن ننظر إلى الحركة الإصلاحية في القرن التاسع عشر بآسيا، واليابان والصين خاصة”.

هذا النظر “تطلب جهدا كبيرا”، من المفكر المغربي، “خاصة أنه ليست هناك كتابات عربية في الموضوع، فوجدت أن الفكر الإصلاحي العربي الإسلامي والآسيوي الياباني والصيني يتفقان ويختلفان في أشياء”، من بين ذلك أن “الدافع للإصلاح واحد: التمدد الاستعماري والتهديد الحضاري للغرب. ونشترك كذلك في أن تيارات الفكر الإصلاحي في اليابان والصين ثلاثة، هي: التراثيون الخالصون الذين يرون ألا حاجة إلى الغرب، بل الإصلاح ممكن لأنفسنا بتراثنا. وتيار التوفيق، ثم تيار القطيعة مع التراث، وألا تحديث إلا بركوب المركب الذي ركبه الغرب”.

أما الاختلاف الأول فهو “علاقة الدولة بالأمة متطابقة في اليابان والصين، منذ قرون. وعندنا ليسا متطابقين، وهذا من الإشكاليات الكبرى للفكر الإصلاحي؛ لأن المسلم خاصة إذا شغّل إسلامه سياسيا لا يبقى معه لفكر المواطنة وجود، لأن المواطنة ولاء لوطن محدود جغرافيا، ولدولة وطنية، أما الأمة فدائما أوسع”، وثاني الاختلافات “اختلاف في مركزية الفكرة الدينية في الفكر الإصلاحي، فهذه الفكرة عندهم غير مهمة؛ فليس لهم دين مثلنا، ورسل، ويوم حساب. ولهذا الفرق بينهم وبين الغرب حضاري، بينما عندنا دار الإسلام ودار الكفر”.

هذان الاختلافان هما اللذان يجعلان القضية الأساسية لـ”فكرنا الإصلاحي”، حسب علي أومليل، هي: “إصلاح الفكر الديني ليصبح قادرا على قبول الإصلاحات”؛ وهو ما يفسر تصدي أجيال من الفلاسفة وأساتذة الفلسفة بالمغرب والعالم العربي لمثل هذه القضايا “على أمل أن نجعل لفكرنا الفلسفي مكانة في الثقافة العربية المعاصرة؛ وألا نظل كأسلافنا الفلاسفةِ على الهامش، الذي رضوا به، ولم يكن يعنيهم لا إصلاح دولة ولا إصلاح مجتمع”.

هذه الإرادة مستمرة إلى اليوم، يزيد المكرّم علي أومليل، “من أجل أن تكون لفكرنا الفلسفي مكانة في ثقافتنا الفكرية المغربية المعاصرة؛ لأن الثقافة اليوم معناها أعمق مما كان: لا أن تقرأ كتابا فقط، أو تشاهد مسرحية أو معرض لوحات تشكيلية… بل الثقافة إلى جانب هذا تعني أن تخلق رأسمال بشريا خلاقا للثروة والمعرفة المتقدمة”.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق